كتب الأستاذ حليم خاتون:
مانيفيستو فلسطين، البيان التأسيسي، لتحرير فلسطين
لا صلح، لا اعتراف، لا مفاوضات.
عندما كتب كارل ماركس وفريدريك إنغلز ال Manifesto الشيوعي،
أو البيان الشيوعي الأول، تحت عنوان، يا عمال العالم، اتحدوا.
اعتقدا أن الثورة الصناعية التي حوّلت قسما كبيرا من المواطنين، إلى عمال يكدحون ويكافحون من أجل لقمة العيش؛ اعتقدا أن الثورة التقدمية العالمية لا بد أن يقودها هؤلاء العمال، لأنهم هم وحدهم يشكلون الطبقة الثورية في المجتمع الصناعي.
ولأن الطبقة العاملة تكثُر وتتركّز في أكثر الدول الرأسمالية تقدما، اعتقدا أن الثورة القادمة سوف تكون حتماً، في أكثر هذه الدول الرأسمالية تقدماً.
لم تكد تمر ثلاثة عقود، حتى خرج فلاديمير لينين في الإمبراطورية الروسية، ليزيد على العمال الصناعيين، العمال الزراعيين والفلاحين والجنود، الذين يموتون بلا طائل في الحروب الاستعمارية، خدمة لصنّاع هذه الحروب من الراسماليين القذرين، الملوثة أيديهم بدماء الشعوب الفقيرة.
ثلاثة عقود أخرى مرت قبل أن يخرج علينا ماو تسي تونغ، بتصحيح جديد للنظرية الماركسية، حين تنبأ بأن انتصار الثورة يمكن أن يحدث بقيادة الفلاحين، الذين ينقلون الدولة الزراعية المتخلفة من العصر الإقطاعي الزراعي إلى الثورة الصناعية التي تبني هي بدورها طبقة عاملة تكمل التطور إلى الأمام نحو الإشتراكية.
بمعنى آخر، قال ببناء الرأسمالية تحت كنف الحزب الشيوعي، كمرحلة ضرورية ما قبل الاءشتراكية.. وهذا ما حدث ويحدث في الصين المعاصرة.
بعد عقدين، خرج علينا فيديل كاسترو وأرنيستو تشي غيفارا بنظرية أن يقود الثورة مجموعة من الثوريين، يعملون على تأطير الشعوب المقهورة والمغلوب على أمرها، والتي تعاني من الحرمان والفقر والجوع (أيديولوجية التعتير بنظر زياد الرحباني في مسرحيته نزل السرور)؛ وإن انتصار الثورة وبناء الاشتراكية يكون عن هذا الطريق وهذا ما حدث ويحدث في كوبا.
تطور manifesto الثورة التقدمية العالمية مع الزمن ومع احترام خصوصيات المجتمعات.
لكنَّ شيئاً واحداً لم يتغير:أهمية الثورة وضرورتها وحتميتها, ضرورة الثورة في سبيل تقدم البشرية وتخليصها من طبقة الواحد بالمئة، من مصاصي دماء الشعوب من الإمبرياليين.
نكبة فلسطين لم تبدأ سنة ١٩٤٨، مع قرار التقسيم، كما يتوهم البعض.
نكبة فلسطين بدأت مع بدء الفكر الصهيوني الذي انتقل من المراحل العقائدية إلى مرحلة القرار، عندما دعا تيودور هرتزل، أبو الصهيونية، إلى مؤتمرٍ ليهود أوروبا، في مدينة بازل في سويسرا.
هناك وُضعت الخطط، ومن هناك بدأ التنفيذ، في كل البلاد وفي كل القارات، من أجل الوصول إلى اغتصاب فلسطين، وطرد أهلها وجلب اليهود، ومن كل الاصقاع، لاستيطانها.
خلال أقل من مئة سنة، استطاع الصهاينة الوصول إلى قرار تقسيم فلسطين كمرحلة أولى, وبعد سبعة عقود من هذا القرار، ها هم يسيطرون على كل فلسطين التاريخية وعلى أجزاء من لبنان والأردن وسوريا بشكل مباشر.
ويسيطرون على قرارات أكثر من عشرين عاصمة عربية بشكل مباشر وغير مباشر.
احتاج العرب إلى أكثر من قرن بعد مؤتمر بازل، حتى يصلوا إلى أولى المحاولات لوضع manifesto لفلسطين.
جمع الرئيس جمال عبد الناصر قادة الأمة، بشرفائها وأراذلها، في مؤتمر قمة في الخرطوم وخرجوا بالmaifesto: لا صلح، لا اعتراف، لا مفاوضات.
هذه اللاءات الثلاث، لم تكن شعارا.
هذا كان المبدأ لتحرير فلسطين.
ربما كان الشعار: يا مناضلي العروبة، اتحدوا.
أو ربما:
يا مظلومي العالم، اتحدوا. ربما؟
لكنَّ جوهرالمانيفستو بقي واحداً.
وجوب التحرير وحتميته.
هل طوّر أي كان هذا المانيفيستو- البيان؟
لقد جرت عدة محاولات لتحريف هذا البيان وهذه المبادىء.
حتى قبل صياغته، أخطأ العرب.
قد يقفز الحبيب بورقيبة من القبر ليقول لنا: إنّه نصحنا بقبول قرار التقسيم سنة ١٩٤٨، وإنّه كان على حق، ويشير علينا بمأساوية وضعنا اليوم.
أو قد يقفز من القبر أنور السادات، ليقول لنا: إنّ كامب ديفيد كانت واقعية
وإنّه كان على حق حين فاوض واسترجع سيناء، حتى ولو كان هذا على حساب الكرامة المصرية، وعلى حساب وحدة ومصالح الأمة العربية.
ربما الملك حسين أو عبد العزيز بن سعود أو ... غيرهم ممن نظّر للهزيمة قبل وقوعها، فساهم، من حيث يدري أو لا يدري، بما وصلنا إليه اليوم في عصر الردّة.
عفوا، أيها السادة، وما أنتم بسادة.. الخطأ الذي ارتكبه العرب وارتكبه الفلسطينيون، هو جريهم وراء وَهْمِ التعايش مع هذا الكيان.
هو سراب التعايش مع واقع الهزيمة والقبول بالاستسلام.
حتى عبد الناصر نفسه، وأنا مدين له، بكل ماأملكه من إيمان وشعور بالعزة والكرامة والشرف؛ حتى عبد الناصر أخطأ، وجَلَّ من لا يخطيء.
منذ أن قبل العرب، وكل يوم يقبلون فيه بهدنة أو وقف إطلاق نار، أو حتى ترسيم حدود؛ منذ ذلك اليوم، خرقنا نحن بأنفسنا، البيان- القانون-المانفيست.
عندما هادنت الثورة الشيوعية النظام الرأسمالي العالمي، كتبت بيديها بداية نهايتها الذي حصل في اليوم التالي لذلك، إلى أن وصل الى انهيار الاتحاد السوفياتي بالكامل.
هل كان تروتسكي على حق، حين تحدّث عن الثورة الدائمة؟
هل كان الخميني على حق، حين تحدث عن وجوب انتشار الثورة الإسلامية؟
نعم، وبكل أسف،أخطأ عبدالناصر حين رضخ للسوفيات وللعالم، ووافق على وقف إطلاق النار سنة ١٩٦٧.
في تبرير ذلك، يقول البعض: إنّ انهيار الجبهات العربية يومها، كان يمكن أن يؤدي إلى دخول الصهاينة الى القاهرة ودمشق وعمّان.
هل هذا صحيح؟. هل كان لدى الكيان القدرة البشرية على هكذا احتلال، وهكذا انتشار؟
حتى أثناء حرب السويس سنة ١٩٥٦، لم يقبل ناصر بالهزيمة ووقف إطلاق النار، وانتشرالفدائيون المصريون في كل المدن، وتحولت بور سعيد إلى ساحة معركة شرف الأمة.
يومها، لم يكن عبدالناصر يواجه الصهاينة وحدهم فقط؛ كانت معهم بريطانيا وفرنسا, إذن، ماذا حصل سنة ١٩٦٧؟
خيانة سوفياتية؟
خيانات عربية؟
حتى الآن، حتى اليوم، تُساق التبريرات،ولكنَّ الحقيقة الأكيدة هي أنه لو دخلت يومها القوات الصهيونية إلى تلك العواصم، لكنا شهدنا أعظم حرب تحرير قومية عربية ممكن أن تحدث, والدليل على ذلك، أن دخولهم الى بيروت سنة ١٩٨٢، أدّى إلى اندحارهم من ٩٩٪ من دولة لبنان الكبير، بما في ذلك الشريط الحدودي والقرى والبلدات "المُطّبعة" مع الكيان.
بعد حوالي خمسة عقود من إعلان الخرطوم، بعد حوالي خمسة عقود
من إعلان عبدالناصر اللاءات الثلاث، آن الأوان ليجتمع أحرار هذه الأمة، ليس لتأكيد هذه اللاءات والإصرار عليها فقط، بل لتعزيزها، برفض كل أنواع الهدنات ووقف إطلاق النار والمفاوضات المباشرة وغير المباشرة مع هذا الكيان.
آن الأوان لنعترف أننا أخطأنا، يوم سمحنا لكذبة حل الدولتين أن تتغلغل وتُقّسم صفوفنا.
أخطأنا يوم ذهبنا إلى مدريد نستجدي حقاً لم نستمر في القتال لأجله.
ونُخطئ في كل يوم نسمح فيه لهذا الكيان، بأن يستيقظ صباحا على سكون الهدوء المُخزي والمميت، وينام كل يوم قرير العين مطمئنا.
إننا نيام إلى درجة الموت السريري, سوف يخرج من يقول:
إن هذه مزايدة على حماس أوالجهاد، أو حتى على المقاومة اللبنانية...
ما قدمه هؤلاء، ويقدمونه، وسوف يقدمونه، هو أعلى وأسمى من كل الكلام.. لكن، وهناك دوما كلمة لكن.
ما أُخذ بالقوة، لا يُسترد بغير القوة.
بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧، كان بيتنا في نيجيريا في كآبة وحزن ونحيب.
نظرت إليّ جدتي، الحاجة صفية التي كانت تقطن مدينة العفولة في فلسطين، ورأت بأم عينها وصول أفواج المهاجرين المستوطنين؛ نظرت إليّ، وقالت:
بُنَيّ، الصراع بيننا وبين الصهاينة هو، إما نحن، وإما هم.
يومها ظننت أن جدتي تُفّسرالماء بعد الجهد بالماء.
اليوم أعرف أن الكثيرين مِنّا يُسَمّون زعماء وقادة هذه الأمة، مع أزلامهم وكلابهم وقططهم، لا يعرفون هذه الحقيقة الأبدية الأزلية، التي لن تنتهي إلا بنهاية الكون والتاريخ، نحن وهذا الكيان، لا يمكن أن يكون هناك تعايش.
إما نحن، أو هم.
لهؤلاء أذكّرهم بما حدث حين جاء أحد جنرالات نابليون يستأذنه أن يستقبل أحد ضباط الأعداء ممن باع وطنه ويريد مقابلة الإمبراطور.
كان نابليون يمتطي فرسه.
دخل الضابط الإنكليزي منحنيا، ذليلا.
نظر إليه نابليون بكل الاشمئزاز الذي يمكن لأي عقل بشري تصوره، ثم وضع كيسا من الذهب على جزمته وقذف به إلى الضابط الخائن، وأدار فرسه ومشى يُحّيي ضباطه وجنوده المنتصرين.
سأله مساعده،
لماذا لم تُكّرم الضابط الإنكليزي؟ لقد ساعدنا كثيرا ووفّر علينا الكثير من الخسائر بالأرواح.
الخونة لا يُكرّمون، أجاب نابليون.
إنهم ديدان الأرض.
مانيفيستو تحرير فلسطين يبقى وإلى يوم التحرير الكامل،
لا صلح ،
لا اعتراف،
لا مفاوضات، لا مباشرة ولا غير مباشرة.
مع هذا الكيان حرب وقتال لا يتوقف، لا باسم التكتيك، ولا بأي إسم آخر.
فلسطين طريقها. طريق واحدة لا غير.
طريق فلسطين تمر من فوهات بنادق المجاهدين.
حليم خاتون