عندما اندلعت أحداث الربيع العربي المزعوم في نهاية العام 2010 وبداية العام 2011 كانت هناك العديد من الدول العربية مستبعدة وفقاً للتحليل السياسي أن تشهد مثل هذه الأحداث، ومن بين هذه الدول كانت سورية العربية التي لم يكن يعاني شعبها ما تعانيه شعوب دول أخرى اشتعلت فيها النيران بفعل الظروف الاقتصادية المتردية مثل تونس ومصر واليمن، فقد كانت خريطتها الطبقية تميل إلى سيادة الطبقة الوسطى على الطبقتين الدنيا والعليا، وكانت المقولة الشهيرة هي أنها الدولة العربية الوحيدة التي " تأكل مما تزرع وتلبس مما تصنع"، ولا يوجد عليها دولاراً واحداً كديون للدول الاستعمارية الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، لذلك كانت مستقلة في قرارها السياسي، وحدث ما حدث وقمنا بتوصيفه منذ الوهلة الأولى على أنه مؤامرة كبرى تستهدف تقسيم وتفتيت هذه الدولة المستقرة إلى حد كبير.
وبالفعل صدقت توقعاتنا فعلى مدار الأربعة عشر عاماً الماضية صمدت سورية في مواجهة المؤامرة الكونية عليها، لكنها في النهاية سقطت كدولة قبل أن تسقط كنظام، فالمتأمل للمشهد السوري يستطيع الآن أن يكتشف حقيقة ما كنا نحذر منه على طول سنوات الأزمة، فقد وقعت سورية فريسة لثلاثة مشاريع أساسية، المشروع الأول هو المشروع الأمريكي المعروف إعلامياً بالشرق الأوسط الكبير أو الجديد الذي يسعى لتقسيم وتفتيت سورية وتحويلها إلى أربع دويلات وفقاً للمخططات والخرائط التي رسمها برنارد لويس سياف الشرق الأوسط الجديد في نهاية سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن العشرين، ومن ينظر للخريطة السورية اليوم يجدها مقسمة فعلياً لأربع أقسام بانحراف قليل عن خرائط برنارد لويس جنوب للعدو الصهيوني ووسط للجولاني وعصابته وشمال شرق لأمريكا والأكراد وشمال غرب لتركيا، والمشروع الثاني هو المشروع الصهيوني المعروف إعلامياً بإسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، ومن ينظر للخريطة السورية اليوم يكتشف أن العدو الصهيوني الذي دمر القدرات العسكرية للجيش العربي السوري في أيام معدودة قد تمكن من احتلال الجنوب السوري والسيطرة على اليرموك وصولاً للفرات، والمشروع الثالث هو المشروع التركي المعروف إعلامياً بإحياء دولة الخلافة العثمانية، ومن ينظر للخريطة السورية الآن يكتشف أن تركيا تفرض سيطرتها المباشرة على جزء كبير من الجغرافيا السورية سواء بشكل مباشر عبر قواتها العسكرية أو بشكل غير مباشر عبر أدواتها التكفيرية والإرهابية، وبالطبع لم يغب عنا طوال الوقت التنبيه بأن المشاريع الثلاثة تستخدم الجماعات التكفيرية الإرهابية لتنفيذ مخططاتها بالداخل السوري، لذلك فالجولاني الذي احتل قمة السلطة في سورية اليوم ما كان له أن يتصدر هذا المشهد دون رضاء الأمريكي والصهيوني والتركي، الذين لم يتمكنوا من تحقيق مخططاتهم كلاً بشكل منفرد بل اضطروا أن يتعاونوا مع بعضهم البعض حتى يتمكنوا من إسقاط النظام وتدمير سورية.
وبالطبع يجب الإشارة إلى أن ما فشلت فيه كل المخططات عبر العمل العسكري على مدار الأربعة عشر عاماً الماضية، نجحت فيه عملية الحصار الاقتصادي التي جعلت الشعب السوري يكفر بقيادته ونظامه السياسي، فالليرة السورية التي كانت ٤٥ منها يعادل دولاراً أمريكياً في ٢٠١١، أصبح ١٤ ألف ليرة يعادل دولار اليوم، وهذا المؤشر وحده كافي لإظهار ما وصلت إليه حالة المواطن السوري، وبالطبع حالة ضباط وجنود الجيش السوري الذين كفروا بالوطن الذي جاعوا فيه، فلم يتحركوا للدفاع عنه عندما تحرك الجولاني وعصابته بإشارة من أسيادهم ومشغليهم في واشنطن وتل أبيب وانقرة، مئات قليلة من الإرهابيين يحملون أسلحة خفيفة ويركبون درجات بخارية استلموا حلب دون مقاومة، ثم حماة، ثم حمص، وأخيراً دمشق، هذه حقيقة المشهد السوري الآن.
وننتقل الآن لمصر لأن نفس المشاريع الثلاثة تستهدف مصر كما استهدفت سورية، ففي إطار مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد مصر هي الجائزة الكبرى، وفي إطار مشروع إسرائيل الكبرى يجب الوصول إلى شرق النيل، أما بالنسبة لمشروع الخلافة العثمانية فمصر هي قلب العالم الإسلامي، وإذا كانت التنظيمات التكفيرية والإرهابية هي أدوات هذا المشروع فعلى الأرض المصرية نشأت الجماعة الأم لهذه التنظيمات وهي جماعة الإخوان المسلمين، والتي استقبلت ألاف من السوريين الفارين بعد اندلاع الأحداث في سورية ٢٠١١، وهنا يجب التذكير ببعض الوقائع لننشط ذاكرة العقل الجمعي المصري، هل نسينا أعلام الانتداب الفرنسي التي يزعمون أنها أعلام الثورة السورية وهي مرفوعة في ميدان التحرير وكل ميادين مصر أثناء تظاهرات الإخوان المسلمين والسلفيين، هل نسينا نفس الأعلام التي رفعها العديد من السوريين في المحلات التي فتحوها في مصر منذ ٢٠١١، هل نسينا حرق هؤلاء السوريين لسفارة بلادهم بالقاهرة في ٢٠١١، هل نسينا استجابة هؤلاء لدعوة محمد مرسي في ١٥ مارس ٢٠١٣ في استاد القاهرة حين دعا للجهاد في سورية واحتشد الآلاف من السوريين بأعلام الانتداب وكان يردد ويرددون خلفه " لبيك يا سورية"، وبعد الإطاحة بالجماعة الإرهابية من سدة الحكم اختفت هذه الأصوات وأختفى معها هذا العلم الانتدابي، وتفرغ هؤلاء لإدارة الأعمال وكانت هناك العديد من التساؤلات المشروعة عن هذه الأموال التي أقام بها السوريين مشروعاتهم وكيف تم جلبها ؟ وكيف تم دخولها لمصر ؟ خاصة وأنها تقدر بمليارات الدولارات، وهناك من كان يؤكد أنها أموال جماعة الإخوان الإرهابية، هذا بالطبع بخلاف الوجود غير الشرعي سواء في الدخول تهريباً أو بالإقامة والعمل دون ترخيص، فالغالبية العظمى من السوريين في مصر يقيمون بشكل مخالف للقانون، والذين يقيمون بشكل رسمي لا يتجاوزون ٢٠٪ فقط من السوريين.
ورغم ذلك كنا نتغاضى عن وجودهم غير الشرعي، وسامحناهم في أفعالهم الداعمة للجماعة الإرهابية، وكنا نقول هؤلاء هم أبناء سورية، الإقليم الشمالي لدولة الوحدة، لذلك فهم لهم حق علينا في ظل ما يمر به وطنهم من أزمة، لكن بمجرد الإعلان عن سقوط النظام في سورية خرجت هذه الخلايا النائمة التي تركت لهم ساحة الاقتصاد المصري يرمحون فيها لسنوات، ليرفعوا علم الانتداب من جديد، ويحتفلون بقدوم الجولاني، ليس هذا فحسب بل ذهب بعضهم إلى السفارة السورية بالقاهرة يطالبون البعثة الدبلوماسية بإنزال علم الوحدة ذو النجمتين ليرفعوا فوقها علم الانتداب، وبدأت الأصوات تعلوا من جديد وفي كل تجمعاتهم بأن الدور على مصر، وأن الثورة المزعومة سوف تصدر لمصر، ومن العجيب والغريب أن الجولاني وعصابته الذين لم يتحرك لهم ساكناً عندما قام العدو الصهيوني بتدمير الجيش واحتلال الأرض السورية في الجنوب بل قالوا ليس من أولوياتنا دخول حرب مع إسرائيل بل نسعى لسلام معها، والذين لم يصدر عنهم بيان اعتراض على وجود الاحتلال الأمريكي والتركي للأرض السورية في الشمال بل يأخذون تعليماتهم من عواصم هذه الدول المحتلة للأرض السورية، يحاولون طمأنة مصر بأنهم لا يرغبون في تصدير الثورة المزعومة إليها، ولهؤلاء نقول لن تتمكنوا من مصر، فالشعب والجيش والقيادة على وعي بكل مخططاتكم، ويجب التحرك السريع لكشف كل الخلايا النائمة من السوريين التابعين للجولاني وترحيلهم من مصر فوراً، اللهم بلغت اللهم فاشهد.
بقلم / د. محمد سيد أحمد