كتب الكاتب حليم خاتون:
"كيف قمنا ببيع الاتحاد السوفياتي وتشيكوسلوفاكيا، مقابل أكياس التسوّق البلاستيكية!".
مقالة الفيلسوف والروائي الأميركي من أصل تشيكي، قد لا تكون الوحيدة، وبالتأكيد لن تكون الأخيرة التي سوف تتناول انهيار الاتحاد السوفياتي ومعه منظومة حلف وارسو...
سبق فلتشك إلى تناول هذه المواضيع قبل عقد من الانهيار، المنشق السوفياتي سولجنستاين, الذي لم يستطع إكمال بضع سنوات من المنفى الأميركي، قبل الانتقال إلى سويسرا.
لقد اكتشف سولجنستاين زيف الديموقراطية الأميركية وانتقد بحدّة النظام الليبرالي الرأسمالي الأميركي الفائق التّوحش، وخلص إلى أن النظام السوفياتي، هو نظام القمع المباشر، بينما النظام الرأسمالي، هو نظام القمع الخفي والعبودية لرأس المال.
يُقال:إنّ كارل ماركس، في أواخر كلماته إلى رفيق دربه وسنده فريدريك إنغلز، باح له بأنه يغادر هذه الحياة، وهو يُحلِّق خارج القيود التي نسجها أتباع الماركسية.
إن تناول ما حدث للاتحاد السوفياتي يقتضي فعلاً التحليق خارج قيود العقيدة الشيوعية التي جعلت منها السلطات السوفياتية نوعاً من الدين الجديد.
مشكلة الشيوعيين أنهم آمنوا، بالماركسية كما يؤمن المتدينون بالعقائد الدينية، فجعلوا منها ديناً جديداً؛ ولم يفهموا أنّ كارل ماركس ليس نبيا ولا إلٰها.
إنه مجردعالم اجتماع واقتصاد ذو نظرةثاقبة, حلّل تطورالمجتمعات من العبودية، إلى الإقطاعية فالرأسمالية؛ وتوقع أن يصل هذا التطور إلى الاشتراكية وينتهي في المراحل العليا منها، إلى مرتبة النظام الشيوعي.
بسبب هذه القيود، لم تستطع الأحزاب والمنظمات الماركسية أن تخرج بدراسات شاملة في نقد البنية السوفياتية وتُبَين أين نجحت وأين أخفقت.
بالتأكيد، هناك الكثير من الدراسات، سواء قبل الانهيار السوفياتي، مع الإشتراكية الإنسانية، التي حاول دوبتشيك إرساءها في تشيكوسلوفاكيا، والتي عُرفت بربيع براغ، قبل أن تنقضَّ عليها دبابات ليونيد بريجنيف.
أو مع الشيوعية الديموقراطية التي قادها ماركسيو أوروبا الغربية الذين حاولوا مواءمة الاشتراكية مع الديموقراطية الرأسمالية.
أما الأحزاب الشيوعية العربية، باستثناء الحزب الشيوعي السوداني، فإنها لا زالت حتى اليوم تتخبط في اللاوعي بين الماركسية العلمية، ودينية الماركسية.
وإذا كان ليون تروتسكي هو أول من انتقد الاشتراكية السوفياتية، وسماّها عن جدارة بنظام رأسمالية الدولة، فإنه هو نفسه، أي تروتسكي، لم يستطع أن يبني تنظيماً أو حزباً ماركسياً علمياً، حيث كان الولاء عند التروتسكيين بنفس العمى الذي كان الولاء فيه عند الستالينيين.
تبعية كاملة للشخص.
تبعية كاملة، وعمياء للقائد.
تأليه القائد، الناتج عن التخلف الثقافي والدونية.
ما قاله أندريه فلتشك، هو في الحقيقة انتقاد للسطحية الرأسمالية التي تنتج أجيالاً من الشباب المخبول الذي ينقسم في أميركا بين هتلر صغير إسمه ترامب، وبين ليبرالي تابع للدولة العميقة ويخدم مصالحها بكل إخلاص، هو بايدن الذي يُصنٍفه الأميركيون السذّج باليساري.
هل مثل الاتحاد السوفياتي
رأسمالية الدولة؟
في هذا الكثير من الصحة، ولكنها ليست رأسمالية منفلتة العواقب.
هل رأى كارل ماركس إمكانية حدوث ما حدث؟
لقد تحدث كارل ماركس عن مرحلتين في الاشتراكية.
الأولى: مرحلة من كلٍّ، حسب طاقته؛ ولكلٍّ حسب عمله.
والثانية: مرحلة من كلٍّ حسب طاقته؛ ولكلٍّ، حسب حاجته.
واستناداً إلى تحليل ماركس، تبدأ المرحلة الأولى ثوريةً، لتتحول مع الوقت، ومع سيطرة البيروقراطية إلى نوع من الرجعية.
ودوماً، استناداً إلى كارل ماركس، تنتهي المرحلة الأولى بالتخلص، سلماً أو حرباً، من البيروقراطية والانتقال إلى المرحلة الأعلى.
هل حدث هذا في الاتحاد السوفياتي؟
لقد حدثت أشياء كثيرة مشابهة، من مثل انتفاء وجود طبقة الرأسماليين.
ومع الوقت تحوّل الحزب الشيوعي السوفياتي إلى جهاز ضخم من البيروقراطية تقود جهازا بيروقراطياً أوسع، هو جهاز الدولة.
في الاتحاد السوفياتي، تحقق الجزء الأول من شعار المرحلة، من كلٍّ،حسب طاقته.
لقد أعطت الشعوب السوفياتية خلال حوالي خمسة عقود كل ما في طاقتها، وصار الاتحاد السوفياتي القطب الثاني عالميا.
لكن، وبدل إعطاء كلٍّ، حسب عمله، عملت البيروقراطية على نهب الدولة وكل مقدراتها.
وانتشرت المخدرات وغيرها من الإنحرافات في هذه البيروقراطية، فكانت طلبات بريجنيف تأتيه وكأنه نيرون عصره، إلى درجة أن الرئيس اليمني الجنوبي السابق علي ناصر محمد حدّثنا عن فوائد فاكهة الپاپاي، التي كانت تذهب مع كل رحلة للطيران السوفياتي إلى مائدة بريجنيف مباشرة بسبب خصائصها المضادة للشيخوخة.
وعند وضع ابنة بريجنيف في الإقامة الجبرية بعد وفاته، وُجد عندها كمية ضخمة من الماس.
حتى جوزيف ستالين، ورغم لا ماديته، كان يتدخل في كل شاردة وواردة إلى درجة أنه يتحمل، وبشكل كبير سبب التأخر التقني السوفياتي،حيث قام بسجن الكثير من العلماء،رافضا تسجيل المعلوماتية كعلم.
لقد توصل بعض العلماء السوفيات في أوائل الخمسينيات إلى سبر غورهذاالعلم الجديد.
إلّا أنّ "الرفيق"الأعلى، ستالين قرّر أنّ المعلوماتيةهي علم برجوازي يساعد الطبقات العليا على استغلال الطبقات الدنيا من المجتمع الرأسمالي، وأنّ النظام الاشتراكي ليس بحاجة إلى هكذا علوم (لقد أرتني صديقتي، هذا التعريف للمعلوماتية في أحد المعاجم التي تعود إلى تلك الحقبة).
ما قاله فلتشك صحيح ١٠٠٪، لكنه أقل بكثير مما كان يحصل داخل تلك المجتمعات.
كان لغياب العدالة الاجتماعية، وسيطرة البيروقراطية على سوق سوداء واسعة الانتشار، تصل إلى ورق الحمّام، ومحارم الورق؛ كان لهذا وقع سيِّء جداً، ما لبث أن أحبط الهمم والعزائم.
فساءت الصناعات السوفياتية إلى درجة المستويات الدنيا, وانتشرت المافيات خارج المدن وتحت إشراف الشرطة نفسها وبعلم الاشتراكية، وعمّ الفساد.
صحيح أن المدن نفسها كانت تنعم بمستوىً عالٍ من الثقافة الكلاسيكية، وأنا شخصياً، تعرفت على معظم الأدب الكلاسيكي والموسيقى والفلسفة الكلاسيكية، وباللغات التي أريد وبأسعار زهيدة جداً.
إلّا أنّ الصحيح أيضاً، أنه كان يُمنع دخول الكثير من الأدب الحديث، أو أعمال قد تتناول أو قد توحي بأي نوع من الحرية, ما كان يصل من هذا، كان يدخل خِلسةً، ويبقى في دوائر البيروقراطية.
أما الادب الفاحش، فكان يدخل إلى بيوت كبار البيروقراطيين، بالتهريب القانوني المنظّم، كما يحصل في أيامنا هذه في دول الخليج.
في النهاية، يجب القول: إنّ نقد التجربة السوفياتية، لا بدّ أن يحصُل يوماً، ولعلّ أهمّ نقدٍ سوف يجري يجب أن يُوَضِح أنّ روسيا عشية الثورة البلشفية، كانت في مؤخّرة الدول الرأسمالية، ولذلك عندما زرت مدينة لينينغراد، وأعجبت جداً بتراثها المعماري الأمبراطوري، لم أستطع عدم ملاحظة، أن وسط المدينة كان في بداية تطوره الرأسمالي...
وحدثت الثورة البلشفية، فتجمّد كل شيء، توقف جمال وسط المدينة عن التطور...وبدأت أبنية عُلَب الكارتون المتشابهة بالانتشار.
هل سبب هذا التطور السرطاني غير الطبيعي، هو البلاشفة أنفسهم، أم هو عدم اكتمال التطور الرأسمالي في روسيا؟
لقد زرت الصين التي بالكاد عَرَفَت المرحلة الرأسمالية.
الصينيون، كما يبدو، تعلموا الكثير من أخطاء السوفيات, لكن، إلى أيِّ حدٍّ هم يبنون الاشتراكية؟
سؤال تصعب الإجابة عليه مع ما نشاهده من تطورٍ رهيبٍ للصين، التي تصرّ على نهجها الاشتراكي، في حين تتعامل، في الخارج ومع الخارج، في هذه الأيام، بعيداً جداً عن نظريات ماوتسي تونغ الرِّفاقيّة،وبشكل أقرب ما يكون إلى التعامل الرأسمالي الاستغلالي الوقح.