١٦/٧/٢٠٢٥
كتب الدكتور ميخائيل عوض/
١
في منهجنا التحليلي، من أكبر الأخطاء فهم الجاري في السويداء بذاته، بعيدًا عن البيئة والظروف والتحوّلات الجارية على كل الأصعدة والمديات، وما تُبطنه من جديدٍ مفاجئٍ، وكثيرًا لا يكون متوقَّعًا، ولا يعرفه الذكاءُ الصناعي، فكيف بالغباء البشري؟
٢
جبل العرب، وعاصمته السويداء، طالما كان مختبرًا تتفاعل فيه العناصر وتنتج جديدًا.
عندما قسّم الاستعمار الفرنسي سورية لألوية، ومكّن الدروز من حكمٍ ذاتيٍّ استمر حتى ١٩٣٧، خال كثيرون أن التقسيم أصبح نافذًا، والتَهبت مخيّلات عن قيام دولة درزية وأخرى علوية وثالثة حلبية، وأقليات في الجزيرة. أمّا للمسيحيين، فكان لبنان أفضل الملاذات، وهو اقتُطع من الشام وساحلها بذريعة تأمينهم، ولأهدافٍ استعمارية بحتة، لا تُقيم وزنًا لحقوق الطوائف والأديان والإثنيات... بمناسبة التأكيد على مقولات توماس براك!!؟؟
٣
لأسبابٍ لا تخطر على بال الفاعلين والمتابعين يومها، أدّت استضافة قائد الثورة الوطنية الكبرى سلطان باشا الأطرش للمناضل أحمد مريود، الذي لاذ بدارته طلبًا للحماية من الفرنسيين، ولأن الباشا الأطرش ضنينٌ على قيم طائفة الموحّدين، ومن شِيمهم إغاثة الملهوف، وحماية من دخل الدار، والعفو عنه حتى لو كان مرتكبًا بحقّ أصحابها — انفجرت على يد الباشا ثورة عارمة، أطلقت شرارة اجتاحت سورية، وتوحّدت تشكيلاتها المجتمعية وتساندت، وأسسّت لاستقلالها وتفرّدها بفعل مقاومة طابقت قيمها وسبب خلقها وتكوينها.
لم يكن أحدٌ يومها يتوقّع ما حصل، إلا أن حصوله عبّر عن مكنونات الشام وطبائعها وخاصّياتها الفريدة، والتي لم تزل من الأسرار التي لم تُفَكّ طلاسمها.
سقط مشروع التقسيم، من وعلى أيدي من صُمِّم لهم، بوهم أنهم ساعون إليه.
٤
ما أشبه اليوم بالأمس. واصل الشبه: البيئة، والمنطقة، وقوى المؤامرة واستهدافهم. ولو تغيّرت الأسماء والأشخاص والعبارات والقوى، إلا أن الأنثروبولوجيا والجيوبوليتيك وأصل النشوء والتكوين لها مقولاتها وخياراتها الحكمية، وتطابقها رمياتُ الله.
٥
نتنياهو، عبر مندوبه المفوَّض إلى أذربيجان، اتّفق مع الجولاني بتفاهماتٍ عميقة، وبطلبٍ ورعايةٍ من توماس براك، على تعزيز دور ومكانة الجولاني، وتمكين إدارته المؤقتة. ومن بين الخطوات اللازمة: فرض السيطرة القهرية على جبل العرب، والاستيلاء على عاصمته السويداء.
وعلى خطٍّ موازٍ، أمر براك "قسد" بالالتحاق بإدارة الجولاني، وهدّد لبنان باستعادته إلى ساحل الشام تحت إمرة الجولاني، فهو رجل نتنياهو وأردوغان، والفتى المفضَّل عند براك.
٦
بحسب أمثالنا، فحسابات الحقل لم تُطابق نتائج البيدر.
عبثًا التعامل مع الشام كأنها قطعة جبنٍ يُقسّمها القرد على الثعالب.
فجبل العرب اكتسب اسمه وقيمه، وتمكّنت منه طائفة الموحّدين كواحدة من بواطن الشام وحكمتها وسرّها.
القيادات الدينية والتقليدية استجابت وصدّقت بسذاجة الوعود والتطمينات، بما فيهم الشيخ الهجري المتمرّد.
افتُعلت اشتباكات بين البدو والموحّدين، وبحسب التفاهمات زجّت سلطة الجولاني بأرتالها وقواتها، فبحساباتها كل شيء جاهز وتم تحضيره.
وقعت الواقعة، وأو رمية الله، وأحكام العناصر المؤسِّسة والمقرِّرة.
فرجال الجولاني الأشداء، وعدّته وعماد سلطته المؤقتة، جمعٌ من الإرهابيين المتعصّبين القتلة، ومن شبّ منهم على شيء شاب عليه.
وما إن دخلت طلائع قوات الجولاني، حتى بدأوا إنفاذ مشروعهم العثماني بطبائع سَلْجوقيّة، والسبيل إليه: اضطهاد واستعباد الطوائف والمذاهب، واغتصاب السنّية الشامية، والاقتصاص من طبائعها وما نشأت عليه.
٧
القيم، والتقاليد، والثقافة، والكيانية، والطبائع عند الموحّدين، ثوابت ومحفّزات على القتال والاستشهاد، كما هي عند الشيعة والسلاجقة والبدو والعلويين والجميع.
دوس صورة سلطان باشا الأطرش من الكبائر، وسبي النساء جريمة لا تُغتفر، ولا يتحمّلها العقل الدرزي؛ فنساؤهم مؤدّبات، طائعات، متديّنات، ويتدثّرن غطاء الرأس والجسد بدون فتوى ولا رجال شرطة الأخلاق والنهي عن المنكر أو فرض الشادر.
وحلق الشوارب، وإلزام المشايخ بالعواء والنوّاء، دونها القبر. فلا حياة للدرزي بلا كرامة، وغطاء الرأس كالشارب، فكيف بالمدوّرة على حذاء سلجوقي قاتل لا يعرف القراءة والكتابة، فكيف به أن يعرف الحدود والمحرمات والقيم عند الموحّدين؟
٨
والدم حامٍ، والعزة والكرامة في أعلى درجات يقظتها واعتدادها، وقد تمرّد جبل العرب على الأسد ونظامه الراسخ والأمني، وقد بذل الأسد شخصيًّا الكثير لتطمينهم وجذبهم، ولم يستجيبوا، وأنشؤوا ما يشبه الكانتون تحت رعاية الأسد وقواته، ولم يصطدم بهم، برغم أن قوته وقدرته وحكمته تفيض ألف مرّة عمّا عند الجولاني.
وفوق كل هذا، عندهم التزامٌ قاطع من دروز فلسطين بتأمينهم وحمايتهم، والتزامٌ علنيّ من نتنياهو الذي يُفاخر بقوّته وأذرعه وإنجازاته...
البيئة والبيدر نتاجاته غير حسابات الحقل.
والرجال مسلّحون، وقيمهم وكراماتهم وشواربهم ومدوّراتهم تحت الأحذية عدوانٌ ومهانةٌ وتطاولٌ لم يحصل من قبل.
منطق الشام، وقيم جبل العرب، فرضت روحها ونفسها، وكرامة الرجال، وحداء ونخوة النساء التي لا يجوز لدرزي إلا أن يستجيب، فعلت فعلها؛ فعاد الهجري إلى طبائعه، وأعلن الجهاد، وعاد الرجال إلى السلاح.
نتنياهو أُصيب بخيبة، والجولاني ووزراؤه وقعوا بالحيرة، وبراك التاجر لم يتحسب لهكذا مفاجآت، ودروز الأردن ولبنان وفلسطين ثارت غرائزهم، فكرامة الطائفة فوق كل اعتبار.
٩
تردّد نتنياهو وضرب تحذيريًّا، ولم يُستجَب، فمونة الجولاني صفرية على فصائل السلاجقة، واتفاقه مع أردوغان الذي صُعق، وقامت قيامة لسانه الطويل والمبري والمعتاد على الإدانات والتهويل لم تُفلح، فنتنياهو مأزوم، وجيشه منهك، وليس لديه رجال، وإذا انفضّ الدروز وسارعوا لنصرة قومهم وعشيرتهم، ستنهار خططه في غزة، وتُهزم إسرائيل في حربها الوجودية، ولا يكون لها مكان في المنطقة.
جنبلاط أكل الضرب، وبهلوانيّته ضاعت بين حانا ومانا، ووئام وهاب عاد إلى السلاح، وأشهر دعوة لتشكيل "جيش الموحّدين"، ودروز فلسطين كسروا سايكس بيكو، وعبروا من مجدل شمس إلى حضر...
يا للهول!
حقًّا، للشام طبائع وقيم وأسرار، وكما هي عاداتها وما خُلقت عليه ومن أجله، تُفاجئ، بل مفاجآتها صاعقة.
تذكّروا ما قلناه ونبّهنا له:
سورية عامود السماء، تتوعّك ولا تموت، يهتزّ العامود ولا يقع، وستعود حاملة لمشروعها وسيادة أزمنتها.
١٠
معركة السويداء مفصلية، وغربال، ومقدّمة لتحوّلات نوعية.
من حُسن حظّ الدروز أن موقعهم وانتشارهم وفّر لهم من يساندهم، على غير حظّ العلويين، وما جرى في الساحل لن يكون في جبل العرب.
انفرط عقد ومخطط براك – نتنياهو – أردوغان في الشام، وبدأت حقبة جديدة، فقد اشتبك وثار الجبلان، والآن دور السنة الشامية ومدارسها وتُجّارها وصناعيّيها.
نتنياهو مأزوم في السويداء، وأردوغان محتار ومرتبك، والجولاني ليس بيده من حيلة، فإن تخلّى عن الفصائل انهارت، أو هامه، وإن التزم الدفاع عنها انهارت مكانته وصورته.
جبل العرب كسر القيد، وجبال العلويين تغلي، والشام وحلب تتمرّد وتتعظ، والكرد يتمرّدون على براك وأوامره.
إنه زمن الشام قد دنا.
لله دَرُّك يا سويداء، والقبّعة تُرفَع لجبل العرب.
لمتابعة كل جديد الاشتراك بقناة الأجمل آت مع ميخائيل عوض على الرابط
https://youtube.com/channel/UCobZkbbxpvRjeIGXATr2biQ?si=9qbBkVg5n_vpqmOS