البشير عبيد - تونس
لم يكن رحيل الروائي والكاتب الفلسطيني الكبير رشاد أبو شاور حدثًا عابرًا في ذاكرة الثقافة العربية، بل بدا كأن غياب هذا الاسم الذي ارتبط بالقلم المقاوم والوجدان الفلسطيني قد أحدث فراغًا يصعب ملؤه. فقد قضى عمره بين المخيمات والكتب والصحف، حاملًا على كتفيه همّ القضية الفلسطينية، مدافعًا عن حق شعبه في الحرية والكرامة، ومؤكدًا أنّ الأدب ليس زينة جمالية أو ترفًا، بل رسالة وواجبًا وصرخة في وجه الاحتلال والخذلان، أداة للكشف عن الواقع بكل تجلياته الإنسانية والسياسية. لقد كانت كتاباته مرآة صادقة لشعب يعاني التهجير والاغتراب، وصرخة ثقافية تستدعي من القارئ أن يتأمل، أن يتفاعل، وأن يشعر بمعاناة الآخرين كما لو كانت واقعه الخاص.
من النشأة إلى المنفى
وُلد رشاد أبو شاور عام 1942 في قرية سيلة الظهر قرب جنين، لكنه سرعان ما ذاق مرارة اللجوء بعد نكبة 1948، حين اقتُلع مع أسرته كسائر مئات آلاف الفلسطينيين من أرضه وبيته. هذا المنفى المبكر ترك ندوبًا عميقة في وجدانه، وغرس فيه إحساسًا ممزوجًا بالحزن والتمرّد. وجد في المخيم ملاذًا وجرحًا مفتوحًا، ومن هناك بدأ وعيه يتشكل على وقع الهزائم والانكسارات، لكنه كان واعيًا أيضًا لأهمية الحلم والكرامة والبحث المستمر عن معنى المقاومة في أصغر التفاصيل اليومية. التنقل بين الأردن ولبنان وسوريا أتاح له أن يعيش تجربة المخيم بمراراتها وأحلامها، وأن يشهد على صعوبات حياة الفلسطينيين في الشتات، ما شكّل خلفيته الفكرية والسياسية وأثر على كتاباته الروائية والقصصية لاحقًا. لم يكن مجرد كاتب يصف المأساة، بل كان أحد أبنائها الذين عاشوا تفاصيلها اليومية بكل ألمها وأملها، متيقنًا أن كل كلمة يكتبها هي شهادة على صمود شعبه.
تجلت روح رشاد أبو شاور في أعماله الأدبية، حيث كتب القصة والرواية والمقالة الصحفية، جامعًا بين الحس الإبداعي والالتزام السياسي. اشتهرت روايته آه يا بيروت كصرخة مدوية ضد الاجتياح الإسرائيلي للبنان وضد كل أشكال الاستسلام والهزيمة. في هذا النص، رسم بيروت الجريحة، المدينة التي تحولت إلى ساحة للموت والحلم معًا، وكتبها بصدق التجربة وحرارة اللحظة، فتجلت فيها الإنسانية بكل تفاصيلها، من أصوات المقاتلين إلى الصرخات الخفية للأطفال والنساء، لتصبح واحدة من أبرز الروايات العربية عن الحرب والحصار. ورغم حدة المشهد، استطاع أن يضفي على الرواية بعدًا شعوريًا وإنسانيًا يجعل القارئ يعيش المدينة كما عاشها أهلها، بما فيها من ألم، وحزن، وأمل.
لكن أعماله لم تقتصر على هذه الرواية اللافتة. فقد كتب أيام الحب والموت والعشاق والمسكوبية، وغيرها من النصوص التي تنبض بوعي سياسي وحس إنساني عميق. في قصصه القصيرة نجد الفلسطيني البسيط، العامل، الفدائي، الأم، والطفل، جميعهم يحاولون التشبث بالحياة في مواجهة واقع قاسٍ، ويظهر بوضوح أن الأدب عنده ليس مجرد سرد للأحداث، بل تسجيل للتاريخ الشعبي الفلسطيني من زاوية الناس العاديين، من منظور إنساني يعكس كرامة الفرد وصموده أمام الهزائم المتكررة. كل شخصية في نصوصه تحمل شعورًا بالمسؤولية تجاه الآخر، وتعبّر عن تجربة جماعية لا يمكن فصلها عن الواقع الاجتماعي والسياسي.
تجربة المخيمات الفلسطينية كانت الحاضن الأساسي لعالمه الأدبي والوجداني. المخيم عنده لم يكن مجرد مكان جغرافي، بل فضاء إنساني تتجاور فيه البؤس مع الأمل، وتتكثف فيه كل التناقضات والصراعات الداخلية والخارجية. في نصوصه نقرأ كيف يصبح الخبز اليابس والأزقة الضيقة وشظف العيش رموزًا للكرامة والصمود، وكيف تتحول المأساة إلى مادة أدبية غنية. لقد استطاع أن يمنح المكان الهامشي صوتًا قويًا في السرد العربي، ليثبت أن الحكاية الإنسانية لا تحتاج إلى أبهة الأماكن الكبرى، بل تكمن في تفاصيل الحياة اليومية لمن يعاني ويحلم في آن واحد. أما المنفى، فكان بالنسبة له أكثر من تجربة ألم؛ لقد كان فرصة لصياغة هوية جماعية مبنية على الذاكرة والمقاومة. كتب عن الغربة لا بوصفها فقدًا فحسب، بل كجسر نحو العودة، فالكتابة عنده كانت فعل إصرار على الوجود، ووسيلة للحفاظ على الهوية الوطنية والثقافية، وجسرًا بين الحاضر المؤلم والأمل المستقبلي.
علاقته بالصحافة العربية
إلى جانب الإبداع الروائي، خاض تجربة طويلة في الصحافة العربية، حيث كتب مقالات وتحليلات في قضايا الأمة، وكان صوته دائمًا إلى جانب فلسطين والمقاومة العربية، منتقدًا الاستبداد والخذلان الرسمي، ومفضحًا التطبيع والانحرافات السياسية. لغة مقالاته صلبة وصريحة، لا تعرف المواربة، لأنه كان يرى أن الكلمة مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون تعبيرًا فرديًا. وقد مثّل بذلك جيل المثقف العربي الملتزم، الذي يرفض انفصال الأدب عن السياسة، ويرى في المثقف شاهدًا على عصره. ظل وفياً لخطه حتى أيامه الأخيرة، فلم يتراجع عن نقد الانحرافات، ولم يساوم على حق العودة، مؤكدًا أن المثقف جزء من المجتمع لا متفرجًا عليه.
اليوم، وبعد مرور عام على رحيله، يظل إرث رشاد أبو شاور حاضرًا في المكتبة العربية المعاصرة. ترك نصوصًا تستحق إعادة القراءة والتأمل، لأنها لم تُكتب لزمنها فقط، بل حملت هموم الإنسان الفلسطيني والعربي في أبعاده الوجودية والإنسانية. إرثه ليس مجرد كتب مطبوعة، بل تجربة حياة كاملة عاشها في الشارع والمخيم والصحافة والمنفى، وبذلك أصبح رمزًا للمثقف المقاوم الذي يدفع ثمن مواقفه. الاحتفاء به اليوم هو احتفاء بجيل كامل من الكتّاب العرب الذين اختاروا الانحياز إلى شعوبهم بدلًا من الارتماء في أحضان السلطة، واستعادة أعماله ليست مجرد وفاء لكاتب رحل، بل فعل مقاومة ضد النسيان وضد كل محاولات طمس الذاكرة الفلسطينية.
العشق الأبدي لبيروت
من يقرأ أعماله يدرك أنه كان مسكونًا ببيروت بقدر ما كان مسكونًا بفلسطين. رأى في بيروت صورة مصغرة لفلسطين الجريحة، مدينة مفتوحة على العالم لكنها محاصرة بآلة الحرب. في روايته آه يا بيروت يتحوّل النص إلى مرثية وبيان في الوقت نفسه، حيث تلتقي أصوات المقاتلين والنساء والأطفال في لوحة واحدة: المدينة التي تصرخ ضد الغياب، المدينة التي تحمل صرخات الهزيمة والصمود والأمل. هو الكاتب الذي جمع بين المكانين: فلسطين التي لم ينسها يومًا، وبيروت التي احتضنته واحتضنت آلاف المقاتلين والكتّاب والمنفيين. وبينهما كتب سيرة جيل كامل عاش الهزائم والانكسارات لكنه لم يفقد الأمل، ليظل شاهدًا على تجربة الفلسطينيين في الشتات والمقاومة.
رشاد أبو شاور لم يرحل جسديًا فقط، بل ترك إرثًا ثقافيًا وأدبيًا يحاكي الذاكرة الفلسطينية والعربية. الكلمة عنده كانت سلاحًا، الرواية فعل مقاومة، والكتابة درعًا ضد النسيان. في ذكرى رحيله الأولى، نحتفي بصوت لم ينكسر، وبقلم عاش ومات من أجل الإنسان الفلسطيني وحقه في الحرية والكرامة، ليبقى شاهدًا حيًا على تاريخ وآمال شعب بأكمله، وذكراه مشتبكة مع فلسطين وبيروت، جزءًا لا يتجزأ من الذاكرة الثقافية العربية، وصوتًا خالدًا للأمل والمقاومة.