في أعالي جبال الساحل السوري، وعلى ضفاف البحر الذي يلامس صخرة اللاذقية، كان صوت الثورة يتردد بين الأودية. عام 1834، ثار العلويون ضد حكم المصريين بقيادة إبراهيم باشا، ابن محمد علي باشا، احتجاجا على التجنيد الإجباري والضرائب القاسية. لكن ما بدأ صراعا على السلطة، سرعان ما انزلق إلى فضيحة إنسانية، كانت تُعرف باسمها بين الصحف والمراسلات، قبل أن تنساها صفحات التاريخ: خطف النساء العلويّات وبيعهن.
في قلب هذه الفوضى، ظهرت فتاوى متشددة تبيح الاعتداء على النساء والأطفال، أبرزها فتوى الشيخ محمد المغربي عام 1820. لم يكن هذا مجرد خطاب ديني، بل أداة استُغلت لتبرير الجرائم، فتحولت الجبال إلى مسرحٍ للجشع والاستغلال. المراسلات بين ضباط الجيش المصري وقادة المدن كشفت عن بيع نساء معروفات بالاسم، بينما تدخل القنصل الفرنسي ليشتري فتاة ويعتقها، موجها" اتهاما صريحا إلى والي اللاذقية يوسف آغا شريف بالتعصّب وسوء المعاملة.
كانت القاهرة تتابع الأخبار عن كثب. حيث كتب سليم بك، والي حمص وقائد القوات المصرية، تقريرا مفصلا يصف الانتهاكات ويطلب محاسبة المسؤولين. وكانت الاستجابة حاسمة. في 13 شعبان 1253هـ (11 نوفمبر 1837)، أصدر محمد علي باشا تعليماته إلى ابنه إبراهيم باشا: التحقيق مع المتهمين، وإذا ثبتت الجريمة، تنفيذ الإعدام، وإعادة النساء إلى عائلاتهنّ.
هذه الوثيقة لم تتحدث عن السياسة أو القوة، بل عن الاعتراف والمسؤولية. لم ينكر محمد علي الجريمة، ولم يحاول تبريرها. اعترف، حقّق، وعاقب. كان يعلم أن الشرعية لا تُصنع بالكلمات، بل بالفعل وان احترام الدولة يبدأ من تحملها المسؤولية ومناصرة المظلومين حتى وإن كانوا خصوماَ .
اليوم، حين نقرأ تلك الوثائق، ندرك أن الحادثة لم تكن مجرد نزاع طائفي أو تمرد عسكري. كانت امتحانا أخلاقيا للدولة: كيف تواجه خطأها؟ كيف تحمي المظلومين؟ وكيف تمنح العدالة مكانها الصحيح؟
خمسون صفحة من مراسلات وفتاوى لم تصنع التاريخ، بينما وثيقة واحدة أرسلت من القاهرة إلى اللاذقية فعلت ما لم تفعله كل البيانات اللاحقة سمّت الجريمة، وألزمت كبار المسؤولين بردّ النساء، وأظهرت أن الاعتراف هو أول خطوات بناء سلطة عادلة.
حين نتأمل الحادثة اليوم، ندرك درسا بسيطا وعميقا في آن واحد: العدالة ليست في إنكار الجريمة أو التغطية عليها، بل في مواجهتها بصدق وشجاعة. محمد علي باشا، رغم استبداده، ترك عبر هذه الوثيقة نموذجا للدولة التي تعرف أن كرامة الإنسان هي المعيار الأهم لأي حكم.