تُظهر الصورة النمطية للعلاج النفسي مريضاً مستلقياً على الأريكة يتأمل صدماته العميقة، مكتسباً وعياً بعاداته وأفكاره ودوافعه اللاواعية. هذه العملية طالما كانت أساس العلاج النفسي. لكن العمليات الإدراكية التي تقف وراء هذا الوعي الجديد، وما الذي يحدث فعلياً داخل دماغ المريض وهو على تلك الأريكة، ما تزال غامضة.
يقول يان أرو، الأستاذ المشارك بجامعة تارتو، في مقابلة مع Observer: "جزء من مشكلة العلاج النفسي هو أننا لا نمتلك فهماً واضحاً للآليات الداخلية. وهذا يجعل تصميم العلاج أمراً صعباً."
إطار جديد لفهم العلاج النفسي
في ورقة نُشرت في Perspectives on Psychological Science، أوضح أرو وطالبه في الدكتوراه نيك كابريل، من جامعة زيورخ أن اكتساب الوعي بالتحديات النفسية والسلوكية غير المدركة يمثل الآلية الأساسية الأكثر أهمية في العلاج القائم على الحوار.
ويقترح الباحثان أن عملية الوعي يمكن فهمها باعتبارها توسعاً في “الخريطة الإدراكية” للإنسان، أي تغيّراً في الطريقة التي يتنقّل بها الفرد داخل عالمه الداخلي. ويوفر هذا الإطار نظرية قابلة للاختبار حول الأسس العصبية التي تفسّر نجاح العلاج النفسي.
تجربة شخصية أشعلت فكرة البحث
يشير كابريل إلى أن هذه النظرية نشأت من تجربته الشخصية. فقد لاحظ كيف أن أسئلة المعالج تدفعه للبحث داخل ذاكرته ومعتقداته، وأن هذه الاستبطانات كانت قوية بشكل غير متوقع.
وقال: "عندما أبحث في ذاكرتي أو داخل ذهني، أشعر دائماً كما لو أنني أتجوّل داخل بيئة ما."
ومع تعمقه في فكرة "الملاحة الذهنية"، اكتشف أنه ليس الوحيد الذي يمر بهذه التجربة. ففي ورقة بحثية عام 2024، وجد هو وأرو أن المرضى والمعالجين يستخدمون لغة مكانية خلال جلسات العلاج، مثل: "هذا مجال غير مستكشف" أو "أنا أدور في نفس الدائرة"، بمعدل أعلى مما يحدث في المحادثات اليومية.
الخريطة الإدراكية: كيف يبني الدماغ عوالمه الداخلية؟
يقترح الباحثان إطاراً يعتمد على الطريقة التي يبني بها الإنسان عالماً داخلياً على هيئة خرائط إدراكية: تمثيلات منظمة للأشياء والأفكار والذكريات والعلاقات فيما بينها.
استُلهمت الفكرة من الأبحاث التي توضح كيف يمثّل الدماغ الفضاء ثلاثي الأبعاد. ففي الحُصين، تعمل خلايا المكان على الاستجابة لموقع محدد، بينما تعمل خلايا الشبكة في القشرة الشمية الداخلية كخريطة منسقة. وتشير بحوث أحدث إلى أن هذه الخلايا لا تمثل المكان فقط، بل تشفّر أيضاً مفاهيم مجردة كالوقت والأصوات والتسلسل الاجتماعي ومعاني الكلمات.
يقول أرو: "من المرجّح أن الدماغ يستخدم هذا النظام الملاحي في مجالات أخرى أيضاً. قد تكون الملاحة الذهنية إطاراً عاماً لفهم التفكير والإدراك التجريدي."
كيف يغيّر العلاج النفسي مسارات التفكير؟
قد يساعد هذا التصور في توضيح كيف يمكن لتغيير طريقة تنقّل الفرد داخل أفكاره أن يحرّره من أنماط التفكير المرضية.
فعلى سبيل المثال، قد يرى الشخص المصاب بالاكتئاب نفسه معيباً، ويُفسّر أي تفاعل سلبي باعتباره نتيجة لهذه العيوب. ومع تكرار هذا النمط، يترسّخ التفكير السلبي. ويشبه الأمر السير في غابة: كلما استُخدم المسار أكثر، اتسع وأصبح الخيار الأكثر احتمالاً للسير مرة أخرى.
لكن عندما يساعده المعالج على رؤية تفسير مختلف، مسار ذهني مختلف، فقد تتغير رؤيته للأمور. ويقترح كابريل أن يقول المعالج: "هنا المكان الذي علقنا فيه. نعود إليه في كل مرة، لكن علينا توسيع هذا الطريق."
أثر الفكرة خارج حدود المرض النفسي
يعتقد أرو أن الفكرة لا تخص المرضى فقط، بل الجميع: "غالباً ما تكون المشكلة أن لدى الناس خرائط إدراكية ضيقة، وطرقاً محدودة للتفكير. وهذه مشكلة عامة للغاية. قد يكون هدفنا كمجتمع هو توسيع طرق تفكير الناس.
دعوة لإجراء تجارب علم الأعصاب
يهدف البحث إلى تشجيع علماء النفس والأعصاب على تصميم تجارب تختبر هذا الإطار الجديد وتحدّد الارتباطات العصبية المحتملة. ويعترف أرو بأن بعض العلماء قد يبدون تشككاً: "من الطبيعي تماماً أن يقول بعض العلماء: أنتم تبالغون. كيف تعرفون أن للأمر علاقة فعلاً بخلايا الشبكة؟"
ويضيف: "هذه هي متعة العلم: أن نحاول بناء الروابط، وأحياناً تكون تلك الروابط صحيحة. عندها قد نفهم شيئاً جديداً تماماً—وقد نكون بذلك قد وسّعنا خرائطنا الذهنية نحن أيضاً."