لماذا ... الصراع على بلاد الشام
مقالات
لماذا ... الصراع على بلاد الشام
وائل المولى
24 كانون الأول 2025 , 06:42 ص

‏في كل مرة تهتز فيها المنطقة، تعود بلاد الشام إلى صدارة المشهد كأنها قلبٌ يتوقف نبضه عن الخفقان إلا حين تنتظم القوى حوله. فمنذ فجر التاريخ، كانت هذه البقعة الصغيرة – بما تحمل من تنوع حضاري وديني وسياسي – مسرحا لصراع لا يهدأ بين القوى الإقليمية الباحثة عن موطئ قدم ومركز نفوذ. وما أشبه اليوم بالأمس، إذ تتقاطع على أرض الشام مشاريع إسرائيل والولايات المتحدة وبريطانيا وتركيا وإيران، وعبر التاريخ كان خلاص بلاد الشام دائمًا على يد المصريين؟

‏المشهد اليوم تتقدم إسرائيل كقوة تسعى إلى فرض واقع لا يسمح بقيام أي دولة قوية في محيطها. فمنذ نشأة الكيان، كانت سوريا ولبنان وفلسطين والأردن خطوط التوازن التي تمنع الهيمنة الإسرائيلية من الاكتمال. لذلك تعمل تل أبيب على تفكيك أي محور يمكن أن يهددها، وإبقاء بلاد الشام ساحة نزيف وصراع مستمر، دون أن ترتفع فيها سلطة قادرة على فرض الاستقرار أو استعادة السيادة بشكل مطلق .

‏وعلى الجانب الآخر، تتحرك تركيا بثقتها المتصاعدة، ترى في كل التراب السوري امتدادًا لنفوذها التاريخي ومجالا حيويا لأمنها القومي. تركيا اليوم ليست مجرد جار، بل مشروع يريد إعادة رسم خرائط المشرق، عبر رعاية بعض الشخصيات النافذة في بلاد الشام وسياسة تتريك المناطق السورية وبناء منطقة نفوذ طويلة الأمد، تمنع قيام كيان كردي، وتمنح أنقرة القدرة على التأثير في مستقبل دمشق وحلب والساحل وإدلب وجعل سورية حديقة خلفية للأتراك .

‏أما إيران، فهي تدخل الصراع من بوابة المقاومة والممرات الاستراتيجية. بلاد الشام بالنسبة لطهران ليست مجرد ملف سياسي، بل تاريخ وحلم قديم نحو المتوسط كما إنها حجر الأساس في منظومة الردع وفي ربط حلقة طهران – بغداد – دمشق – بيروت. ولذلك جاء حضورها ثقيلا، ممتدا، يتجاوز السياسة إلى العقيدة والاستراتيجية وأحيانا إلى الوجود العسكري المباشر.

‏بين هذه القوى الثلاث، تبدو مصر غائبة في ظاهر المشهد، لكنها حاضرة في عمق التاريخ والوعي. فمنذ فجر الدولة المصرية القديمة، عرف المصريون أن أمنهم يبدأ من بلاد الشام، وأن أي تهديد يأتيهم من الشرق لا يُصدّ إلا في أرض كنعان. وعندما قويت مصر، تغيّرت موازين المشرق، وعندما ضعفت، انهارت بلاد الشام وتناوبت عليها الإمبراطوريات.

‏لم تكن مصر قوة احتلال في بلادالشام، بل قوة استقرار. فمن أحمس إلى تحتمس، ومن عهد المماليك إلى مشروع صلاح الدين، ومن جمال عبد الناصر إلى كل محاولة عربية لبناء توازن في المنطقة، كانت القاهرة المركز الذي يمنح المشرق معنى التماسك. مصر لم تدخل إلى بلاد الشام طمعا بموارد، بل دفاعا عن حصنها الشرقي وعن الفكرة العربية الجامعة.

‏لهذا، بقي خلاص بلاد الشام مرتبطا دائما بمصر. ليس لأنها الأكبر عربيا فقط، بل لأنها الوحيدة التي تمتلك شرعية الاندفاع العربي خاصة أن لديها جيش، ثقافة، كتلة بشرية وازنة ، وحسّا تاريخيا يرى أن استقرار بلاد الشام ليس خيارا جغرافيا بل ضرورة وجودية. فمن دون مصر قوية، تتحول بلادالشام إلى ساحة تتقاسمها القوى غير العربية  ومن دون مشروع عربي مركزي، تتقدم إسرائيل وتركيا  لملء الفراغ.

‏اليوم، تعيش المنطقة لحظة إعادة تشكل جديدة، تتقدّم فيها المشاريع الإقليمية بقوة، بينما يتراجع الدور العربي الذي كان يشكل جدار التوازن في وجه الأطماع الخارجية. لكن الحقيقة التي لا تتغير هي أن بلاد الشام، مهما اشتد عليها الصراع، لا تستقل ولاتنهض ولايزول الخطر عنها إلا حين تستعيد مصر دورها الطبيعي. فهذه الأرض، بحساسيتها وجغرافيتها وقيمتها الرمزية، تبحث دائما عن مركز عربي يحميها … ومصر كانت وستبقى هذا المركز، متى اختارت أن تعود إلى عهدها لأن مصر ليست مجرد بلد ... مصر قوة عربية كبرى .