بقلم ( عباس المعلم )
عامٌ كأن الزمن فيه تعثّر، لا يمضي، ولا يعود، بل يئن فوق فجوةٍ مفتوحة على هيئة قلبٍ غائب، قلبٌ ينوء بثقل الفقد، ويحتفظ بصمتٍ يشبه الحداد الأبدي.
ومنذ ذلك اليوم المشؤوم، صار كل يومٍ يقاس بوزن الغياب، وكل نفسٍ يثقل عليه الصمت، حتى خُيّل لنا أن السماء أطبقت على الأرض، وأننا نحمل على صدورنا ثقلًا لا يُحتمل إلا لأولئك الذين عرفوا معنى الانتظار، وذاقوا مرارة الفراغ الذي يتركه الغياب حين يكون قدسًا.
ثلاثةٌ وثمانون طنًا من الغياب سقطت دفعةً واحدة، لكنها لم تكسر الجسد… كسرت أفقنا، وفتحت في الروح متاهةً من الحنين، حيث تتصارع الأشواق مع الصبر، والذكريات مع الألم.،، كل شعاعٍ خجول، وكل صوتٍ خافت، كان يستدعيه أكثر…
كأن كل شيء يصرخ فينا ؟؟ أين هو؟ أين حضوره؟ كل فجرٍ بلا نوره كان مرعبًا، وكل ظلمٍ بلا عدله كان كسرًا آخر فينا، يُختم على القلب بنارٍ لا تطفأ.
نشتاق إلى حضوره كما يشتاق العطشان إلى الفرات، كما يشتاق القلب الضائع إلى النور الغائب عن الدنيا.
نشتاق إلى نبرته، تلك النبرة التي تهزم الفوضى بصمتها، إلى ضحكته العابرة التي كانت تقول لنا إن الطريق مهما طال، لا يزال قابلًا للاجتياز ،، إلى كلماته التي كانت قواعد سرية للبقاء حين تتهاوى كل الأشياء، كأسرار منارةٍ تقودنا من الظلام إلى النور الداخلي…
عامٌ قادم بدونه… لكنه ليس بلا أثره فهو الغائب الذي يزداد حضورًا كلما اشتد الاستهداف، وكلما تعاظمت الوحشية، وكلما اكتشف شعبه أن الفقد ليس لحظة، بل مسار طويل من الاشتياق المتراكم، كأنه موجةٌ مستمرة على بحرٍ من الحنين، لا تهدأ ولا تترك القلوب بلا أثر..
نحن العطشى لحضوره، لا نطلب معجزة، بل ظلّ تلك اليد التي كانت تمسك المعنى حين ينفلت، وتشِدّ الروح حين تتعب، وتقول لنا .. لسنا وحدنا… حتى لو كنا كذلك.
ومن بين الركام، دموعنا على غيابه تدفقت كالفرات، تنحت فينا صبرًا عميقًا وتوقًا خفيًا، وتجعل من الحزن نافذةً يرى من خلالها القلب ما كان مخفيًا، وتجعل من الألم مرشداً يعلّمنا كيف يكون الفقد مدرسةً، والاشتياق معراجًا. كل دمعة صارت نبعًا، وكل صمت صار صلاةً مخفية، وكل شوق صار رمزًا لعظمة الروح التي تعرف قيمتها حين تهدر المراحل.
نعيش تحت أنقاض رجلٍ كان وطنًا متحركًا، وحين غاب، لم يسقط هو… سقط الفراغ الذي يربطنا به، لكن في هذا الفراغ ينبعث من الركام ضوء كربلائي، يفتح في القلوب أفقًا لا يُرى، شعاعٌ يهمس بأن لكل حزن أجنحة، وأن لكل فقد بابًا يفضي إلى نورٍ لم يُختبر بعد ..
عامٌ مضى بلا السيّد، وعامٌ قادم بلا جسده، لكن حضوره حاضرٌ كجرحٍ مفتوح، كنبعٍ صامت، كضوءٍ يتسلل من بين الأنقاض، يذكّرنا بأن الحزن مدرسة، والفقد قوة، والاشتياق معراجٌ نحو حضوره الذي لا يموت، نحو روحٍ تعلو على كل ما ينهار، نحو نورٍ صاعد من كربلاء… لا يزول.
وهناك، في صمت الركام، بين دموع الفرات وضوء كربلاء، تتجلى الحقيقة البسيطة والمخيفة ،، أن الغياب ليس موتًا، وأن الحضور الحقيقي لا يعرف الزمان ولا المكان، بل ينسكب في الروح، يضيء القلب، ويعلّمنا كيف نرتقي فوق كل الانكسارات، وكيف نصنع من الاشتياق قوة، ومن الألم أفقًا… ومن الفقد حضورًا أبديًا.
عباس المعلم - كاتب سياسي
03-063494