.
عندما يقول "جاويش اوغلو" بأن لا احد يستطيع ان ياخذ قرارا فيما يخص ( القوقاز و العراق وسورية وليبيا وشرق المتوسط ) دون موافقة تركيا ، فهو بذلك يقدم اوراق اعتماد لبلاده الى ثلاثة جهات ، هي ( أميركا و اوروبا و اسرائيل ) ..
أردوغان الذي قام مؤخرا بتعيين ثلاثة سفراء جدد في كل من ( الولايات المتحدة وفرنسا و "اسرائيل" ) قام باختيارهم من خارج السلك الدبلوماسي وبعناية شديدة من الشخصيات المقربة منه ويتمتع كل منهم بعلاقات قوية داخل واشنطن وباريس وتل ابيب ، هذا الاجراء يتوافق مع محاولات مستميتة منه لفتح قنوات سرية مع هذه الجهات الثلاث ..
لا تريد اوروبا ولا الولايات المتحدة الى الان خسارة تركيا كحليف استراتيجي هام جدا لكنها في الوقت ذاته باتت تخشى مزيدا من التورط التركي في العلاقة مع روسيا وايران ومؤخرا الصين ، والعقوبات المخففة للغاية التي فرضها كل من الاتحاد الاوربي والولايات المتحدة على تركيا خلال الايام الماضية والتي شملت هيئات التنقيب والمسح شرق المتوسط وهيئة الصناعات الدفاعية ، لا قيمة لها عمليا ، وهي تحمل رسائل سياسية وتلويح لاردوغان اكثر منها ذات تاثير عملي او اقتصادي ..
تنفس اردوغان الصعداء عقب صدور تلك العقوبات ، وهو المتخوف على اقتصاده المتارجح والمتأزم بشكل كبير ، وهو وإن كان استبقها بتقديم أوراق اعتماد جديدة لدى الغرب كما اسلفنا ذكره فإنه سيعمل من الآن على محاولة رأب الصدع في علاقاته الغربية بطرق سرية ، خاصة ان المهلة الجديدة الممنوحة له لا تتجاوز بضعة اشهر حتى آذار المقبل وهو الموعد الذي حدده الاتحاد الاوروبي للنظر في عقوبات اكثر قسوة وتأثيرا على تركيا ..
ظاهرياً وحتى تلك الفترة ، مطلوب من اردوغان ان يصل لاتفاق مع اليونان وقبرص وفق صيغة تفاهم تخص شرق المتوسط وبالتنسيق مع فرنسا واوروبا، وان يجد حلاً لمشكلة منظومة الدفاع الجوي الروسية S400 بالتنسيق مع الولايات المتحدة ..
لكنه ، اي اردوغان ، يقدم اوراق اخرى كبدائل لذلك ويريد ان يقول للغرب واسرائيل ، اتركوا لي هذه الملفات ومستعد لتقديم عوضا عنها كبدائل استراتيجية مهمة لكم أيضا ..
تبدو البدائل الاستراتيجية التي يقصدها أردوغان محفوفة بالمخاطر وغير مضمونة وهذا ما يجعل الطرف الاخر مترددا في قبولها على اهميتها بالنسبة له ، ويمكن تلخيص البدائل تلك والتي أشرنا إليها في مقدمة القول أعلاه بالتالي :
- القوقاز ، حيث يدرك اردوغان اهمية تلك المنطقة للاطراف الثلاثة وهو يقدم نفسه كقوة قادرة على احداث تغيير فيها يصب في مصلحتهم ، وهنا لا بد من القول أنه من السذاجة الاعتقاد بأن ما نطق به اردوغان من شعرٍ حول اذربيجان الجنوبية والتي تشكل جزءا من ايران ، كان خطأ عفويا غير مقصود ، بل هي احدى رسائله للغرب بانه قادر على ان يفعل الكثير في تلك المنطقة بما يخدم مصالح تلك الجهات ..
- سورية والعراق أيضا ، هي من الملفات التي يلعب عليها اردوغان ، ففي الشمالين السوري والعراقي ماتزال الورقة الكردية صالحة بنظره ، ولذلك هو حرك جيشه وارهابييه باتجاه عين عيسى السورية ، وكثف هجماته شمال العراق ، في محاولة منه لتقديم هذا الملف على طاولة البدائل امام الأطراف الغربية ، وهو يدرك ما تعنيه الورقة الكردية للولايات المتحدة وحلفاءها ..
- شرق المتوسط ، عاد اردوغان وعبر قنوات سرية مع "اسرائيل" لطرح فكرة ربط مشروع غاز "إيست ميد" الاسرائيلي مع تركيا وانضمامها اليه كبديل عن قبرص واليونان وحتى عن مصر ، ومن تركيا باتجاه اوروبا ، وهو بذلك يقدم بديل عن الخلاف المتصاعد بينه وبين اوروبا حول الموضوع من خلال الاستقواء بإسرائيل ..
ما بين خيارات الغرب وبدائل اردوغان ، يمكننا القول ان اردوغان قد وضع نفسه وبلاده في مخاطرة كبرى ، فهو في الاحتمالين ، سيجد نفسه إما امام ضغط الغرب الهائل وعقوباته ، او امام ضغط الشرق متمثلا بروسيا وايران وحلفائهم وعقوباتهم ، وامام هذا وذاك الوضع الداخلي التركي المعقد وخاصة الاقتصادي الذي لا حلّ سحريا له على الاطلاق ولا امكانية لتجنب انهياره في أي لحظة ، متى ما قرر الغرب او الشرق الاطاحة به ..
واذا كانت العقوبات الغربية سيفا مسلطا على تركيا ، فإن العقوبات الروسية ليست باقل منها تأثيرا خاصة ان بوتين تمكن بدهائه من احداث تاثير مهم على الاقتصاد التركي ، عبر عدة قطاعات تخص الطاقة والسياحة ومنشات نووية ومشاريع خطوط النقل بالاضافة لصفقات عسكرية ..
واذا كان الغرب اعطى مهلة حتى الربيع لاردوغان ملوحا بسلاح العقوبات ، فإن الشرق قادر في هذه المدة على قلب المعادلات على الارض وسحب البدائل التي يطرحها اردوغان للغرب من يده وتحويله الى نمر ورقي بلا مخالب ، فلا القوقاز ولا سورية والعراق ولا شرق المتوسط ولا حتى ليبيا هي ساحات مضمونة له ، والمعادلات فيها قابلة للتغير في أي لحظة يتخذ فيها القرار اللازم ، واذا كان الهدوء على الجبهات هو جزء من سياسة بعيدة النظر ، فإن تحريكها بعكس ما تشتهي سفن اردوغان ممكن في أي لحظة ..