كتب حليم خاتون:
هل يختلف لبنان عن بقيّة البلدان في القوانين العامّة للثورة؟
هل هناك بنية مجتمعيّة خاصّة في لبنان تفرض أخذها في الحسبان، عند مناقشة الأزمات؟
أسئلة كثيرة تفرض نفسها، في كل مرة يواجه البلد فيها أزمة، لا تلبث أن تنتهي، أو تؤدّي إلى أزمات في الحركات النضالية عامة، وفي الأحزاب والتيارات، بل وحتى في الحركات المطلبيّة، على بساطتها، وبساطة أهدافها.
ما هو لبنان، من هو لبنان؟
يحبّ الكثير من الرومانسيين العودة بلبنان إلى العصور التاريخية الغابرة، وكأن هذا الكيان وُجد، منذ الأزل بشكله الحالي، ويفتشون عن أسباب تسمية لبنان، فيرجعونها تارة إلى الثلج الذي كان يغطّي جباله، وتارة أخرى إلى حقيقة أن الِاسم ورد عند الحضارات التي توالت على المنطقة، بما في ذلك ذكر اسم لبنان في "العهد القديم".
لكن الأكيد أن لبنان، ليس مجرد نزوة عند الجنرال الِاستعماري غورو، الذي استجاب إلى أمنية البطرك الحويّك.
في الإجمال، يصرّ البعض على أن لبنان المعاصر هو نتيجة عاملين:
1- إعلان غورو قيام دولة لبنان الكبير.
2- الِاستناد إلى الدولة المعنيّة، في أقصى حدودها المزعومة، والتي أقامها الأمير فخرالدين.
إذا تناولنا عامل التأسيس الأول، أي إعلان دولة لبنان الكبير، نجد كم كانت يد الِاستعمار قويّة وداهية في استغلال غباء بعض النخب المحليّة لتنفيذ مآربها.
ظن البطريرك الحويًك وأصحابه أن مؤتمر فرساي، لماكان يسمى زوراً مؤتمر حق تقرير المصير للشعوب، هو مؤتمر حق تقرير مصير لبنان.
لكن الحقيقة لم تكن سوى تقسيم بلاد الشام، ولبنان جزء لا يتجزّأ منها، كما بقية بلدان المنطقة بين القوتين الِاستعماريتين، فرنسا وبريطانيا، طبقا لاتفاق سايكس بيكو.
هذه الِاتفاقية التي وقّعها قبل نهاية الحرب العالمية الأولى وزيرا خارجية هاتين القوتين: سايكس عن بريطانيا، وبيكو عن فرنسا.
أما لماذا وصل لبنان الى هذه الحدود تحديدا، فلا دخل، لا لفخرالدين ولاللبطرك بهذا.
المسألة من جانب فرنسا كانت الدفاع عن مصالحها الِاستعمارية مع القبول بإعطاء بريطانيا كل المنطقة التي كانت تاريخياً تحمل اِسم فلسطين، والتي وهبها اللورد بلفور لليهود، مقابل الحصول على دعمهم المالي والعلمي للِانتصار على دول المحور في الحرب العالميّة الأولى.
هذا يعني طبعاً أنّ إعلان إقامة دولة لبنان الكبير، لم يكن سوى عمل اِستعماري أسّس إلى إنشاء الكيان الصهيوني، وأسّس تالياً الى كل الأزمات التي تشهدها هذه المنطقة، منذ ذلك الإعلان المُخزي.
أمّا فخرالدين المعني، فتلك قصة مُضحكة مُبكية، تختلف كثيراً عن كل الأقاصيص التي روتها كتب التاريخ الرسمية في المدارس، والتي استندت فيها إلى روايات البعض، وتجاهلت روايات أخرى في خدمة جهات كنسية من جهة، وفي خدمة المشروع الذي سوف يأتي لاحقاً بعد انهيار الخلافة العثمانية.
حقيقة الأمر هي أن فخرالدين لم يكن سوى أحد "الأمراء" المعينين من قبل الدولة المملوكية.
حين اشتد الخصام بين السلاجقة العثمانيين والمماليك، على وراثة الخلافة العباسية في بغداد، دعا كل من الطرفين فخرالدين إلى نصرته...
فما كان من الأمير المعني إلا أن جمع جيشه، وأوهم كل طرف من الطرفين أنه آتٍ لنصرته.
تباطأ فخرالدين في السير، وأرسل كشّافته لتبيّن سير الأمور بين جيشي المماليك والعثمانيين.
ما إن أتته الأخبار عن تفوّق العثمانيين، حتى اندفع بجيشه يقاتل إلى جانب المنتصر، لينال رضاه ويثبِّتَ مُلكه،ومنذ ذلك الوقت صار مَثَل:"مين ما أخذ أمي، أقول له ياعمًي"؛
صارهذا المَثل يُحتذى ويُفتخر به في هذه البلاد.
لم يتوقف فخرالدين عند هذا المستوى،بل تعدّاه إلى أعمال أكثر حقارة،حين كان يجمع الجزية الظالمة من الناس، ويخبئها في حساب له في إمارة توسكانا التي تتبع إيطاليا هذه الأيام.
ووصل به الأمر أن اتفق سِرّاً مع الأوروبيين على تسهيل استيلائهم على فلسطين وبيت المقدس، والقتال إلى جانبهم في مقابل تكريس الإمارة له ولأسلافه من بعده.
إذا كان المنطلق الأول لتأسيس دولة لبنان الكبير قائم على مشروع سايكس بيكو الِاستعماري، فإن المنطلق الثاني المستند إلى حقارة وخيانة فخرالدين لأهل بلاد الشام هو أيضا أساس عاطل لقيام هذه الدولة.
أقامت فرنسا دولة لبنان الكبير الذي احتفل بمئويته بعض السذّج بالإضافة إلى النظام الحاكم والمستفيدين من هذا اللبنان.
أقامت فرنسا دولة لبنان الكبير على نفس الأسس الطائفية والمذهبية والمناطقية والعشائرية، وكرّست هذه التقسيمات في المجتمع، بإقامةدستور يحترم هذه التقسيمات، ويجعل من لبنان اتحاداً لكانتونات متحدة، لكن غير قابلة لا للحياة ولا للِاندماج.
هل تقصّدت فرنسا إقامة هذا النظام؟
إن ما حصل في العراق بعد الغزو، ودستور بريمر الذي قسّم السلطة في هذا البلد بنفس الطريقة اللبنانية، يعني أن هكذا نظام هو الأمثل لخدمة الإستعمار، وضمان ديمومة سيطرته.
أمّا كيف يحدث هذا؟
فببساطة، يمكن رؤية كل مذهب أو فئة تحتكر، أو يحتكرها فكر معين...
منذ التأسيس رأينا قيام حزبين كبيرين يختلفان طائفياً ويكرّسان تقسيم البلد.
حزب الكتائب في المجتمع المسيحي، الماروني تحديداً، وحزب النجّادة في المجتمع المسلم، السُنًي تحديداً.
سياسياً، كان هذا يعني تقسيم البلد في خيار الَانتماء الوطني والقومي.
كان من الطبيعي أن يكون هذان الحزبان غير عابرين للطوائف، بسبب انعزاليتهما وتقوقع كلٍّ منهما في بيئته.
ما لبث الأمر أن تتطوّر في بقية الطوائف، فخرج عند الدروز الحزب "التقدمي الَاشتراكي" الذي وإن ضمّ بعض مسيحيي الجبل تحت لواء "الِاشتراكية"، إلا أنه لم يستطع أن يعمّ المناطق، بسبب انعزاليته، رغم اختفائه خلف شعارات يسارية كاذبة في بريقها.
وبسبب ارتباط الأرثوذكس
بالمسيحية المشرقية، خرج عندهم الحزب السوري القومي الذي كان يرمي إلى الوحدة الشامية، حيث معظم المسيحيين هناك ينتمون إلى الكنائس الشرقية.
وبسبب ارتباط الكنائس الأرثوذكسية، وصل تأثير موسكو عن طريقها إلى بيروت، حيث تأسّس الحزب الشيوعي.
وحدهم الشيعة ربما، تجاوزوا الظلم التاريخي الذي حملته معظم القوى التي سيطرت على المنطقة، وانتموا إلى التيارات الِانفتاحية.
في البدء، ومع السيد عبدالحسين شرف الدين، حاولوا الِانتماء والدفاع عن الدولة العربيّة الفتيّة في الشام، لكنّهم ما لبثوا أن هُزموا كما بقيّة التيارات الوحدوية.
وبسبب الظلم التاريخي الذي لاحقهم، طيلة الفترات السابقة، وإهمال السلطات الحاكمة دوماً لأبسط شروط الحياة، كان معظم الشيعة فقراء وأميين...
وبسبب هذا الفقر والحرمان، لجأ معظم الشيعة إلى محاولة الِانتماء إلى القوى القومية أو الشيوعية التي كانت، وحدها، تحمل أفكاراً عابرةً للطوائف والمذاهب رغم محدودية انتشارها.
صحيح أن السيد موسى الصدر جاء ليقودالشيعة،للخروج من بؤسهم، وصحيح أنه سعى إلى ذلك عبر الدعوة إلى إقامة الدولة المدنيّة، كتعبيرٍ ملطّفٍ عن العلمانية المرفوضة عقائدياً عند المسلمين.
إلا أن الحرب الأهلية من جهة، وإخفاء الإمام الصدر القصري على يد أحمق ليبيا معمر القذافي، دفع حركة المحرومين التي بدأت عابرة للطوائف، إلى التقوقع داخل الطائفة الشيعية.
وكرّس هذا التقوقع، تأسيس حركة أمل التي بدل أن تكون حركة مقاومة ضد الصهاينة وأعوانهم، صارت مغناطيس لاجتذاب الشيعة من التنظيمات القوميّة واليساريّة، ووصل الأمر بعد اختفاء الصدر إلى العنف والإغتيال في سبيل بناء جدار بين الطائفة الشيعية والأفكار الثورية العابرة للطوائف.
مع حركة أمل، اكتمل الطوق الحديدي حول الكانتونات المذهبية.
كل مذهب له حزبه أو أحزابه التي تدافع عنه على حساب الوطن.
وصار شعار العلمانية فزّاعة عند الأحزاب المسيحية لتخويف المسلمين ومنع إقامة دولة قانون مدنيّة وعادلة، يشعرون أنها سوف تلغي الإمتيازات الإقتصادية التي أمّنها لهم نظام المتصرفية أيام الخلافة العثمانية، والإنتداب الفرنسي ودولة ال 43 التي بناها الإستعمار.
لبنان اليوم هو اتحاد كانتونات مذهبية غير قابلة للإندماج رغم حفلات التكاذب التي لا تنتهي.
وإذا كان الشيعة اليوم في مقدمة القوى الوطنية والثورية، فهذا يعود الى سببين، لم يعد الحرمان أهم منها.
السبب الأول، والأساسي، والجوهري، هو وجودهم على ثغور الدولة، وفي مواجهة عدو تاريخي حاقد، هو في الحقيقة رأس جسر لحملة استعمارية تتحيّن الفرصة للعودة والسيطرة والإطباق على كل المنطقة العربية.
السبب الثاني الذي يجعل من الطائفة الشيعية أقرب إلى الثورية هو أن سندها في هذا النضال على الثغور، هو دولة تعاني هي نفسها من نفس هذا العدو التاريخي.
صحيح أن شيعية إيران قد تلعب دورا ما، لكنه بالتأكيد ليس دورا جوهريا.
الشيعة محكومون أن يكونوا ضمن القوى الثورية بسبب موقعهم على الثغور وبسبب الظلم التاريخي الذي عانوا منه.
الدليل على ذلك أنهم أيام مصر الناصرية وقفوا إلى جانب جمال عبد الناصر وضد الشاه الشيعي العميل لأميريكا والغرب.
وفي زمن الثورة الفلسطينية، كان معظمهم في قلب النضال الفلسطيني، رغم الفروقات المذهبية ورغم فساد وتنمّر الكثير من القيادات الجاهلة الفلسطينية الآتية بمعظمها من أصول إخوانية متخلفة.
اي
اليوم سوف يعاني لبنان دون أي أمل بقيام حزب أو جبهة عابرة لهذه الكانتونات.
صحيح أن الأزمة الخانقة تطبق على صدر الكلّ.
لكن اللبناني، المتخلًف ثقافيا وثوريا، لا يستطيع أن يرى نفسه مع حركة أو حزب من خارج كانتون منطقته أو طائفته.
لذلك، والى وقت طويل،
لن نرى حركة فيها بركة.
بل حتى بعض الأحزاب اليسارية بدأت تفقد ثوريتها، وبالتالي بوصلتها.
هذا ما يحصل مع بعض الشيوعيين التابعين للإمبريالية رغم قسمهم
بأغلظ الكلمات أنهم ""ثوريون!!!"".
بعض القوميين العرب صاروا سعوديين أو إماراتيين حسب "الدفعة".
حتى القوميون السوريون،
ضاعوا ونسوا تعاليم سعادة العلمانية.
هل من أمل لقيام أي حركة تحرّر وطني في هكذا ظروف؟
بالتأكيد لا.
الامل الوحيد، هو أن يتجاوز حزب الله يوما هذا الحاجز المذهبي الذي يلفّه من الداخل ومن الخارج.
الكثيرون من الحزب يقيمون هذا الحاجز من الداخل ويمنعون المقاومة من التنفّس بأوكسيجين من خارج الطائفة.
والأحزاب والقوى الأخرى تحرص على إقامة هذا الحاجز من الخارج، حتى تظلّ هي المُسيطرة على كانتونها المذهبي، فلا يلتحق شباب هذا الكانتون
بحزب الله، الذي يخافون ثوريته، وليس شيعيته.
إلى متى؟
لا احد يعرف..
لكنه الأمل الوحيد.
أنيس نقاش لم يكن استثناء، ولا الشيخ ماهر حمّود استثناء...
لكن أمثال هؤلاء، هم جواهر يجب البحث عنها ب"السراج والفتيلة".
شيء أخر ممكن أن يجذب أصحاب الكرامة والشرف والعزة والحريّة والمروءة إلى صفوف حزب الله،
هو أن يلتزم الحزب بموقف ثوري لا يساوم ولا يهادن ولا يقبل التعامل مع عملاء السعودية وفرنسا ولو برّر ذلك بكل أنواع الشعارات التي لا معنى لها، لأن التابع للسعودية أو للغرب ليس هو من سوف يبني وطنا، الذي سوف يبني الوطن هو الحرّ، الكريم، الشريف... الموجود في كل الطوائف والمذاهب، والذي يفتش ولا يجد من يريد بناء وطن.
كل ما يراه هذا المواطن الشريف، الحرّ، الأبيّ، الكريم، هو قوىً تريد بناء كونفدرالية طوائف.