كتب موسى عباس:
لم يكن يوماً عاديّاً الثالث والعشرين من شهر أيّار من العام 2000.
كما لم يكن يوم السادس عشر من شهر تشرين الأول 1976 يوما عادياً في تلك البلدة القابعة فوق تلةٍ تحيط بها مجموعة هضابٍ لا يتجاوز ارتفاع أعلاها السبعماية متر والتي تطل عليها جبال جليل فلسطين
المحتلة.
الفصل خريف و الرياح الباردة تلفح وجوه القرويين الذين أُخرجوا من منازلهم عُنْوةً على أيدي من كان يُفْترضُ أنهم جيران العمر، من قرى مجاورةٍ أغراهم عدوٌّ لئيمٌ غاشم على حمل السلاح إلى جانبه تحت قيادة عملاء جهلةٌ أغبياء ، نكّلوا بجيرانهم الذين لم يسيئوا لهم يوماً لعقود خلتْ ، تغذوا بحقد الطائفية التي أنشبت مخالبها في جسد الوطن منذ الثالث عشر من نيسان 1975 مع اندلاع شرارة الحرب الأهلية في بيروت .
"حانين" تلك القرية التي كان الأجداد والأباء الذين لم يكن يتجاوز عددهم المائتي شخص قد ذاقوا فيها مرارة الظلم وذلّ التهجير عام 1920 لأربع سنين على أيدي المستعمرين الفرنسيين دون أيّ مبرّر ، فقط لأنهم كان عليهم أن يدفعوا ضريبة الأحداث التي وقعت ذلك العام في قرى جبل عامل بين المجاهدين المعارضين للإحتلال الفرنسي وجنود الإحتلال وأعوانه ومرتزقته المؤيدين له.
كان قد مضى حوالي ثلاثة أشهر من المعاناة المريرة من جرّاء محاصرة القرية من قبل مرتزقة الصهاينة ، لا يخرج منها ولا يدخل إليها أحد إلا تسلُلاً عبر الأودية وتحت وابلِ رصاصِ القنص ،والسبب رفضُ جميع سكانها التعاون مع الكيان الصهيوني ومع عملائه ممن كانوا قد حملوا السلاح إلى جانبه بعد تلقيهم تدريباً عسكريا داخل فلسطين المحتلة.
في السادس عشر من تشرين الأول 1976 كان قد مضى يومان على القصف المدفعي العنيف على مداخل القرية وأحيائها من مرابض مدفعية الإحتلال من داخل فلسطين المحتلّة ومن القرى المحيطة بالبلدة وذلك مقدّمة لاقتحامها الذي حدث بعد مقاومة جريئة من مجموعة من شبّان البلدة ما كانوا يمتلكون سوى بضعة بنادق كانوا قد حصلوا عليها من الأحزاب الوطنية التي كانوا ينتمون إليها ، لم تكن تلك البنادق لتستطيع الصمود أمام المدفعية والرشاشات الثقيلة التي كانت تحملها المصفحات والآليّات العسكرية، لم مجموع المدافعين عن القرية بضعة عشر شخصاً، لأن غالبية الشباب كانوا قد غادروا القرية أثناء الحصار علّهم يجدون فرصة عملٍ خارجها لتأمين معيشة ذويهم المحاصرين، حيث هاجر معظمهم إمّا إلى العراق وليبيا أو إلى بعض دول الخليج العربي.
أقتحم عملاء الصهاينة القرية تحت إشراف الضباطٍ الصهاينة ، ارتكبوا مجزرة ذهب ضحيتها تسعة من الأهالي من بينهم فتاة تمّ تقطيعها إلى أشلاء .
جمَعوا الناس كباراً وصغاراً على "البيادر"،
اقتادوا من بينهم رجلاً كان في العقد الخامس من العمر ، أخذوه إلى منزله وأعدموه بضربات من "البلطات".
دخل العملاء المنازل ،نهبوها وأشعلوا النيران في بعضها .
أُرغِمَ من تبقى من سكان القرية على مغادرتها تحت التهديد بالقتل لمن يبقى ، وهكذا فرغت من سكانها الذين توزعوا على قرى ومدن الجنوب وبيروت وبعضهم وصل الى البقاع .
انتشرت أنباء سقوط القرية بيد الصهاينة وعملائهم وتناقلتها الوسائل الإعلامية المحدودة في ذلك الوقت ، ووصلت إلى أسماع المهاجرين من ابناء البلدة ، فعاد غالبيتهم إلى لبنان والتحق معظمهم في صفوف المقاومبن من أحزاب الحركة الوطنية في القرى والبلدات القريبة من القرية.. وبعد فترة وجيزة بدأوا بخوض العمليات العسكرية ضد الصهاينة وعملائهم على أمل أن يستطيعوا طرد الغاصبين وتحرير القرية،لكن حدث ما لم يكن في الحسبان لديهم فقد اجتاح الجيش الصهيوني الجنوب في آذار من العام 1978 ووصل إلى أطراف مدينة "صور" ، وعندما تراجع إحتفظ بما تمّت تسميته الشريط الحدودي ومن ضمنه قرية "حانين". وتكرر الاجتياح في حزيران من العام1982 ووصل إلى مدينة بيروت.
كان الأهل وأفراد الأسرة قد تنقلوا من بلدة إلى أخرى حتى استقر بمعظمهم السكن في أحد أحياء بيروت لا سيما بعد إجتياح 1982.
ومضت السنون الواحدة تلو الأخرى وتتابعت عمليات المقاومة التي اشتد ساعدها وقوي عضدها مع ظهور المقاومة الإسلامية التي التحق بها عدد لا بأس به من أبناء البلدة ،وبدأ الأمل يكبر مع اشتداد العمليات العسكرية ضد المحتل وأذنابه من العملاء ، وتحت وطأة ضربات المقاومين أجبروا على الإنسحاب من بيروت ومن ثم الجبل وتبعهم تحرير مدن صيدا وصور .
كان حُلمُ "الحاج أبو خليل" الذي تجاوز الثمانين من العمر العودة إلى قريته وأن يدفن في ثراها ،كان تلك أمنية جميع أبناء البلدة لا سيما من تبقى من كبارها على قيد الحياة.
طالت فترة التهجير وفَقَدَ "الحاج أبو خليل" الأمل بالعودة، وكنت أشحذُ فيه روح الأمل من خلال الحديث عن أننا سنعود ولكنه كان يجيب :
-الفلسطينيون لا زالوا يحملون مفاتيح منازلهم في فلسطين منذ عشرات السنين ولم يعد أحد منهم , ونحن أصاينا مثلهم، "الحاج كان قد عاش نكبة 1948 الفلسطينية من خلال العائلات الفلسطينية التي سكنت "حانين" .
أجبته :
-لا سنعود إن شاء الله بهمّة المقاومين الذين يواجهون العدو في كل مواقعه ،فها هي جميع المناطق تحرّرت وسيتحرر الشريط الحدودي ونعود وسنعيد بناء المنزل أفضل مما كان.
أجابني :
- إن شاءالله ، نذرٌ عليّ إذا عدتُ سأنام على (السُويّْدة ) التي هي أمام المنزل . أجيبه :
-أظنها قد يبست وماتت .
أجاب بشكل حاسم:
-السُوّيْد ابن الأرض لا يموت إلّا إذا اقتلع من جًذوره ، حينها يذبل ويموت.
في مساء أحد الأيام بعد بضع سنين ، مررت لألقيَ عليه التحية كالعادة بعد عودتي من العمل ،فوجدته يجلس على الكرسي بالقرب من التلفاز ويراقب الشاشة وفاجأني قائلا :
- سنعود قريبا إن شاء الله ، سألته ما الذي جعلك تبدّل موقفك من اليأس الى الأمل ؟قال:
-لم يكن لدى الفلسطينيين مثل هؤلاء وأشار إلى صورة مجموعة من المقاومين يقتحمون أحد المواقع الصهيونية في تلال "جبل علي الطاهر"، وأردف لو كان لديهم مثل هؤلاء لعادت فلسطين .
ومن يومها عادت روح الأمل اليه .
ولم يخب ظنه .
ها هو فجر اليوم الثالث من أيام التحرير قد بزغ وثمار الشهادة قد حان قطافها، فما من حقٍّ يعود إلا بإصرار أصحابه وتضحياتهم ، وما من أرض اندحرَ عنها مستعمرٌ إلّا بعد أن يُمَرّغ أنفه في وحْلِ الهزيمة.
وأرضُ الطهر في جنوب العزّة والكرامة لم تتحرر إلا بعد أن أرتوت بدماء مئات الشهداء ومن بينهم كوكبة طاهرة من شباب "حانين المقاومين" الذين استشهدوا على طريق العزّة والكرامة.
الحاج يستعجلني للوصول إلى حيث مسرى الأجداد والآباء، إلى أرضًٍ روى وِهادها ورُباها ودروبها بعَرقِه ، غادرها قصراً مُرغماً منذ 24 عاماً.
ووصلنا ، ولم تكد السيارة تتوقف حتى رمى بنفسه خارجها ، وسجد على التربة أمام ما كان يوماً يسمى منزلاً وأصبح أثراً بعد عين , سجد باكياً شاكراً حامدا.
نهض من سجدته إتّجه ناحية(السُويّْدة) تمدّد عليها واضعاً خدّه على شوكها القاسي وسالت الدماء من وجْنتِهِ وبَرَّ َّبنذرِهِ ووفّاه.
وأثمرت الشهادةُ نصراً وتحريرا.
وحقّق دمُ الشهداء حُلمَ الوالد.
فبعد ثمان من سنيِّ التحرير ،احتضنَ ثرى "حانين"جثمانه بين دفّتيْه قرير العين مطمئناً أنّ ما حدث في السادس عشر من العام 1976 لن يتكرّر طالما أنّ هناك رجالاً أعاروا جماجمهم للّه وباعوا دنياهم بآخرتهم.