كتب الاستاذ غالب قنديل عن مُسببات النقمة الجماهيرية والتي تنعكس بمظاهرات واحتجاجات في بلادنا واعتبرها تتمثل في الفساد والطائفية والتبعية, تشخيص الكاتب ينطبق على معظم الدول العربية المأزومة, من لبنانّ الى العراقّ والخ, الدول التابعة والمنفذة لأوامر البنك الدولي ومؤسسة التقد الدولية تعاني من ارتدادات تنفيذ وصفات هاتين المؤسستين والمنظمات الدولية التابعة لهما, لا حل ولا خلاص لشعوب بلادنا إلآ بالخلاص من التبعية وكما من الطبقة السياسية الفاسدة التي أفقرت الناس وجلبت الكوارث للبلاد خلال حكمتها عبر عقود, لا خلاص لشعوبينا الآ بتغيير النهج وبمحاربة الفساد والطائفية أو الجهوية والمناطقية وكل ما يفكك وحدة ولحمة المجتمعات العربية, ما كتبه الاستاذ غالب ينطبق على معظم الدول العربية, اخترنا هذا المقال لمنطقيته وعمق البحث فيه لنقدمه لقرائنا الكرام.
إضاءات
الفساد والطائفية والتبعية
غالب قنديل
من يدقق في وجوه الحياة السياسية اللبنانية ومعضلاتها ويتقصى بنية النظام اللبناني القائم على التقاسم الريعي يجد علاقة عضوية راسخة بين الأبعاد الثلاثة المتداخلة.
اولا الفساد المجسد باستثمار المواقع السياسية والإدارية في هرمية السلطة واجهزتها لوضع اليد على حصص وعمولات من خلال الأشخاص المنتدبين بحكم التركيبة الطائفية إلى الإدارات والمؤسسات وإبرام صفقات يديرها النافذون عبر مجموعات من المقاولين ووكلاء الشركات الأجنبية.
في هذا السياق برزت تاريخيا وتوسعت منذ الحرب الأهلية وتكرست بعد الطائف ظاهرة وضع اليد على الممتلكات عامة كالأملاك البحرية والمشاعات والمقالع والكسارات والمرامل وغيرها لتحويلها إلى حيازات خاصة يتوزعها النافذون السياسيون في مختلف المناطق وتمت تغطية هذا الاستيلاء بصيغ وأشكال قانونية اتاح التحكم بها نفوذ المستفيدين في السلطة وهياكلها.
كانت شركة سوليدير النموذج الصارخ لأوسع عملية استيلاء منظمة على املاك عامة وخاصة بغلافها القانوني الذي انطلق بتشريع في المجلس النيابي وكرس وضع اليد القسري بما فيه من مظالم بواسطة لجان تخمين قضائية دشنت عهدا خطيرا من شبك هذا الجسم القانوني المستقل افتراضا بمصالح خاصة لأفراده وهو المفترض أن يكون ساهرا على حماية المصالح العامة والخاصة ومنع السطو عليها أو التربح منها.
ثانيا ترسخ في قلب هذا النموذج توزيع الريع على شركاء السلطة بقوة التقاسم الطائفي للوزارات والإدارات مع شل أجهزة الرقابة ومرجعياتها القانونية الملزمة وفق النصوص.
تأمنت التغطية القانونية للتقاسم عبر التوسع في استنسابية السلطة التنفيذية التي تصدرت المئات من قراراتها عبارة "خلافا للقانون أو خلافا لرأي ديوان المحاسبة أو خلافا لرأي مجلس الخدمة المدنية " كما عطلت الحكومات المتعاقبة تنفيذ احكام مجلس شورى الدولة وعلقت القوانين وتجاهلتها كليا لتحمي مصالحها وليواصل اركانها والشركاء النافذون جني عائداتهم من العمولات والصفقات التي تحكمها محاصة معلنة في التوزيع عبر التصرف بالمال العام ومن تلزيم الأشغال وإدارة الصفقات العمومية وبحصاد كبير من عائدات الشراكات الباطنية في التعهدات الكبرى التي ظل بعضها صوريا ووضعت اليد على اعتماداتها ومن مجالات الريع صفقات استئجار المباني الحكومية وتجهيزها واستئجار الأملاك العامة النهرية والبحرية والبلدية بأسعار زهيدة لفترات مديدة بعضها يصل إلى تسعة وتسعين عاما.
ثالثا في ظل تبعية النموذج الاقتصادي الاستهلاكي للهيمنة الغربية وارتهانه لفقاعة القروض المتضخمة ظهرت موارد ريعية كبيرة في عمليات الخصخصة التي كانت ذروة المنهبة في تقاسم احتكار السوق الداخلية للمحروقات وفي صفقات الفيول الخاصة بكهرباء لبنان وفي خصخصة الخدمات والمرافق العامة كالهاتف الخلوي والبريد وجباية الكهرباء والمياه التي ادخلت النادي السياسي في وليمة مالية مهولة الأرقام والعمولات وأشدها فضائحية ولصوصية وجبة تلزيم الهاتف الخلوي لشركات اجنبية ظهر في صفقاتها بعض رموز الطاقم السياسي الذي توزع وكالاتها وتخطت عائداته الريعية الغنائم التقليدية من حصاد التلزيمات والتعهدات التي درج اهل السلطة على تقاسمها تاريخيا عبر مشاريع الطرق والمنشآت الحكومية ومستلزمات الوزارات والإدارات العامة كما تضخمت كعكة التقاسم وتوسعت بتحويل سندات الدين إلى مادة استثمار ريعي بفوائدها المتضخمة وتحول الاكتتاب بها وبأسهم سوليديرإلى محفظة تربح مغرية للسياسيين والمسؤولين في معظم مفاصل السلطة الذين ظهرت عورات تقاسمهم في ملف النفايات وتلزيمه لسوكلين وبناتها على حساب البلديات والبيئة والصحة العامة.
رابعا التشابك الوجودي بين الطائفية وريعية الاقتصاد التابع المبني على سحق فرص تنمية الإنتاج والإباحية الاستهلاكية والخضوع للهيمنة الاستعمارية الغربية يفرض ترتيبا واضحا للأولويات في التصدي للفساد والمظالم الاجتماعية التي تفاقمت بصورة واسعة مع ازمة تراجع الريوع ونضوبها بعد استنزاف تواصل لما يزيد على ربع قرن تحت عباءة السطوة الاستعمارية التي وفرت الإمداد بالقروض لشراء الزمن من خلال مؤتمرات المانحين المتلاحقة منذ باريس واحد حتى سيدرمؤخرا.
كشرت منظومة الهيمنة الاستعمارية عن انيابها ضد المقاومة التي هي قوة تحرر في مجابهة اللصوصية الاستعمارية والعدوان الصهيوني ففرضت عقوبات مالية على لبنان زادت من حدة الأزمة ورفعت منسوب المخاطر ويبدو في هذا المشهد ان إسقاط الهيمنة الاستعمارية والتوجه شرقا هو المفتاح الذي تتلاقى فيه روافد الانتقال إلى اقتصاد منتج يقضي على أسس التقاسم الريعي وبناه السياسية ويلاقي التطلع إلى قيام مؤسسات وطنية للسلطة تخلف صيغة التقاسم الطائفي بما يتيح بلورة الإرادة الشعبية وصياغة الهوية الوطنية فيفتح أبواب البلاد على مرحلة بناء اقتصادي جديدة بقوة الشراكات القومية والشرقية التي تتيح فرصا نوعية لدور اقتصادي صاعد ومنتج وقابل للحياة تسهم فيه معا سائر القوى الحية في لبنان وسورية والعراق والأردن ككتلة عربية مشرقية صاعدة..