كتبت ايمان شمس الدين: كورونا والدين والمقدس
ومع وباء كورونا COVID19 برز مجددا جدل العلم والدين والمقدسات، والعلم والأخلاق في التعاطي مع الإنسان في الأوبئة.
فإذا حكمته معايير الأرض تجعله مجرد شيء وسلعة يتم التعاطي معها وفق فائدتها المادية، فهنا تصبح القوة غاية تتحكم بمصير الإنسان بغياب العدل، لأن أصحاب النفوذ هم أصحاب القرار، وهو من يمتلكون قوة العلم والتنفيذ والتقنين، بالتالي يصبح مصير الإنسان المشيئ، مصيرا عرضة للانتهاك والظلم.
وإذا حكمته معايير السماء (وفق نظام الإنسان المتأله) وهي معايير جامعة بين الأرض والسماء (مادية ومعنوية)، تم التعاطي مع الإنسان كإنسان له حق عام وعليه واجبات أيضا. لأن القوة هنا وسيلة لتحقيق ميزان العدل، وإعطاء كل ذي حق حق، فيصبح من يملك القوة والنفوذ والعلم والتقنين، يستخدمهم وسيلة لتحقيق العدل، ورفع البلاء، والظلم وفق معايير منضبطة.
المعايير المادية العلمية في الأوبئة تعطي كل التحذيرات والتعليمات، وتشخص كل المحاذير التي على الانسان اتخاذها لحماية نفسه من المرض، وتشخص بعد ذلك من خلال العلوم الطبيعية الدواء، أي التشخيص هنا واكتشاف الدواء وتفاصيل العلوم الطبية هي بيد العلم، وتطبيق هذه المحاذير والعلاج يكون بيد الإنسان واختياره، فتأتي المعايير السماوية لتفرض حقوق للجميع بالتساوي في موضوع التداوي من جهة، وتفرض واجبات على الجميع في موضوع وجوب الالتزام بإرشادات المختصين من الأطباء لعدم انتشار الوباء من جهة أخرى، فتحمل الإنسان مسؤولية أخلاقية وشرعية، وتعتبره مأثوما إن خالف، أي هي تمارس دور الرادع الذي يدعم مسيرة الأطباء العلاجية، دون أن تتدخل في منهجهم الطبي أو تشخص العلاج.
فالدين هنا لا يتدخل في العلم ولكنه يسانده ويدعمه ويأنسنه أكثر، والمقدسات هنا دورها كمحددات للهوية وملهمات للمنهج، تبث الأمل وتثبت دعائم الإيمان وتدفع باتجاه الأخذ بالأسباب، وتربط الإنسان بالسماء ليستمد قوته وثباته منها بوسيلة مهمة هي الصبر والثبات، مما يزيل حالة الهلع، ويثبت دعائم الاستقرار على مستوى الفرد والمجتمع والدولة، ويخفف من الضغط النفسي الفردي والاجتماعي، بالتالي يخفف من الضغط على الدولة، ليشيع حالة من الهدوء العام تستطيع فيها الجهات المختصة والمعنية، تدعيم مسيرة امتلاك القوة لتحقيق العدل والعدالة
فهي من جهة تحمي الإنسان وحقه في الحياة وتمنعه من التهاون بهذا الحق، وتحمله مسؤولية حياته وحيوات الآخرين، وتضع له معايير شرعية في كيفية التعامل مع الوباء، ومن جهة ثانية لا تتدخل في عمل الطبيب وتشخيصه ومنهجه في العلاج، إلا من ناحية المعيار الأخلاقي الذي يوجب على الطبيب حفظ حيوات كل الناس دون تقصير، ووفق سعته وطاقته حتى لا تحمله مالا يطيق، فتكون جامعية بين معايير الإنسان ومعايير الله في طول بعضها البعض، فلا الغاء لعقل الانسان، و لا إلغاء لمعايير السماء وأحكامها التي تحفظ تحقيق العدالة، فهي تحمي تفكير الإنسان بمعايير الله لتحقيق العدالة وعدم الظلم وامتلاك قوة منضبطة كوسيلة لتحقيق هذه العدالة لأن:
" كلا إن الإنسان ليطغى".[1]
وعاد إلى السطح مجددا مع وباء كورونا أيضا، جدل الأخلاق والبعد الإنساني في كيفية مواجهة الوباء، خاصة حينما تصبح إمكانيات الدولة الصحية محدودة أمام عدد كبير من المرضى الموبوئين، فهل يحق للطبيب أن يمنح علاج لمريض ويمنعه عن مريض بحجة سن المريض؟ الحق بالحياة هو حق الجميع دون تمييز.
وحق العلاج هو حق للجميع دون تمييز، وواجب الطبيب هو واجبه اتجاه كل المرضى دون تمييز، فالحياة منحة الله للإنسان ولم يعط لأي جهة حق سلبها إلا في حالات محددة، أهمها إذا قتل إنسان متعمدا إنسانا آخرا وسلبه حياته، فيكون عقابه هو سلب الحياة وفق شروط لهذا الحكم جدا دقيقة وصعبة ليس محل نقاشها هنا.
هنا يتدخل الدين في تطبيق العلوم الطبيعية وأدوات تطبيقها ليحفظ ميزان القوة العلمية ضمن معيار العدالة، ويكون دور المقدسات الدينية خاصة الرموز منها دور محدد للهوية التي تتشكل من منظومة القيم والمعايير والثقافة، ودور آخر هو ملهما للمنهج والمسار الأقرب للعدل، من خلال سيرة هذه الرموز ومنهجها وتاريخها لا من خلال تشييئها وتحويلها لقوى خارقة خارج نظام السببية الإلهية، تعميقا للكسل والتخدير الديني، والتخلي عن المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية والعلمية اتجاه الفرد والمجتمع والدولة.
أي أن جدل العلم والأخلاق واقعا هو ليس جدلا، بل هو توزيع أدوار، فالعلم يشخص ويعالج ويكتشف، والدين يضبط ويدفع للالتزام والتطبيق، ويتدخل في حالة الطغيان العلمي واستخدام القوة العلمية في استعباد الإنسان ليمنع الاستعباد ويوظف العلم والقوة كوسيلة لتحقيق العدالة وليس غاية بذاتها.
لا يمكن للوباء أن يكون حجة في سلب حق إنسان في الحياة، ولا حجة ليسلب منظومتنا القيمية والمعيارية والإنسانية، خاصة مع وجود احترازات كثيرة يمكننا القيام بها تحمينا من الوباء بنسبة ٩٠٪، ومع تسليمنا بمشيئة الله التي ستتحقق إذا كانت حتمية حتى مع أخذنا بالاحترازات والوقاية.
هذا التسليم الذي يحقق السلام الفردي والاجتماعي، ويخفف من الهلع والخوف، ويخلق بيئة اجتماعية وفردية آمنة من وباء الخوف التوتر، ومن وباء الكسل، ويدفع الإنسان لمزيد من العمل والأمل، بعيدا عن هواجس الموت والرحيل، ف "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا"[2]، تندرج تحت التسليم الآخذ بالأسباب، الذي يأخذ بالأسباب ويسلم أمره لله، الذي يعقل ويتوكل، وليس الذي يرمي نفسه في التهلكة ويدعي إن أصابه شيء أنها مشيئة الله، فمشيئة الله وقضاؤه وقدره لها بعدان، بعد حتمي لا مفر منه، وبعد غير حتمي تغييره باختيار وإرادة الإنسان. كحال الذي يتصدق ليدفع البلاء، فهل هو لا يسلم لأمر الله، أم هو يأخذ بالأسباب لدفع البلاء المقدر؟
إذا التسليم هو حركة إيجابية باتجاه الأخذ بالأسباب مع التسليم لله وأمره، وليس التسليم هو ترك الأسباب ورمي النفس بالتهلكة.
ولا وظيفة الرمز المقدس التعطيل، بل دوره الدفع باتجاه العمل، وامتلاك القوة والاستلهام الإيجابي من شخصيته لمعالم تلك القوة، لتحقيق العدل الذي سعى هو بنفسه لتحقيقه.
ما يحدث يعيد سؤال الإيمان بالله ودور المقدس، وأثره على السلوك الإنساني كضابطة تحكم مسارنا في هذه الدنيا، الإيمان بالله الذي يبدل مسار تفكير الانسان وبالتالي يجعل سلوكه أكثر حضارية وإنسانية، شريطة أن يكون هذا الإيمان دافع للحياة وحب الناس ولفيض الرحمة من القلب، وليس سلاحا بيد الطغاة والمتطرفين، ولا بيد من يسعى لامتلاك قوة حضورية لشخصه يستمدها بالاسترزاق باسم الدين، ليكسب ود عوام الناس بتبني ثقافتهم الشعبوية حول الدين والمقدس، فيحقق لوجوده حضورا مزيفا بالتخدير الديني، ويكون قاطع طريق أمام عقولهم ومخدرا لهم، ومعيقا لامتلاك القوة المحققة للعدالة.
هذه إطلالة سريعة تحتاج مزيدا من التنقيح والتعميق والبحث، لكن تسارع الحدث، وتساقط أوراق التوت عن وجوه كثيرة لعبت بعقول الناس باسم الدين، دفعني لعمل إطلالة قد تكون أفكار لاستثارة العقل والنقاش ولمزيد من التعميق في الفكرة والسؤال.