المهندس: ميشيل كلاغاصي
27/2/2024
منذ عام 2022 بذلت الولايات المتحدة جهودها كبيرة لإظهار اهتمامها غير المسبوق بأرمينيا, ودفعت برئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي لزيارتها, وذلك في أعقاب افتتاح السفارة الأمريكية في يرفان, التي بدورها عملت جاهدةً على ضخ الأموال الطائلة وتحويلها إلى خزائن العديد من المقرات والمنظمات غير الحكومية العاملة في أرمينيا, واستطاعت جذب بعض النخب والمستفيدين نحوها, كذلك ساهم اعتراف الكونغرس الأمريكي بالإبادة الجماعية للأرمن عام 2019, بتعبيد طريق الإستغلال السياسي والتأثير على قرارات القيادة والحكومة الأرمينية بما يخدم مخططات الإختراق الأمريكي لمنطقة الفضاء الروسي – الأوراسي.
من الواضح أن الولايات المتحدة لم تفوت فرصة إستغلال ملف الصراع الأرميني مع أذربيجان ضد روسيا, وسط الهواجس الأرمينية لعلاقة موسكو مع أنقرة من جهة, وإذربيجان من جهةٍ أخرى, لكن تبدو مهمة واشنطن صعبة ومعقدة بغياب ثقة أرمينيا بتركيا وبالرئيس إردوغان, فالذاكرة التاريخية للأرمن أكبر من محاولات محوها أو تغييرها بسهولة.
من الواضح أن الولايات المتحدة قررت اختطاف أرمينيا واستخدامها لإختراق منظمة معاهدة الأمن الجماعي ( روسيا وبيلاروسيا وأرمينيا، طاجيكستان وقيرغيزستان وكازاخستان ), لإضعاف الإتحاد الأوراسي عسكرياً واقتصادياً, بما يشكله من ظهير عسكري وإقتصادي قادر على دعم روسيا في حرب الناتو والإتحاد الأوروبي عليها عبر البوابة الأوكرانية, بما يملكه من قدرات كافية للرد على تحديات توسيع الناتو, بالإضافة إلى منع روسيا ودول المنظمة من القيام بدور يضمن التوازن الموازي في المنطقة الأوروبية الأطلسية.
في الوقت الذي وجد فيه رئيس الحكومة الأرمينية نيكول باشينيان طريقة لإسكات الأصوات الداخلية الرافضة للتوجه الحكومي الجديد ووجوده في السلطة, ولحل أزماته المعقدة مع تركيا والصراع العسكري السياسي التاريخي مع أذربيجان, وسارع باللجوء إلى منظمة الأمن الجماعي, وكأن به أراد إحراجها, وطالبها بالدفاع عن أرمينيا, ومنح الولايات المتحدة فرصة القول أن روسيا "فشلت بحماية أرمينيا", ومهد بذلك الطريق لقبول حكومته العروض الأمريكية والإنجرار نحوها ونحو الغرب والناتو على غرار أوكرانيا.
وعلى الرغم من نجاح التقارب التركي الأرميني, والإتجاه نحو تعزيز العلاقات الثنائية, والإستفادة من علاقات تركيا بأذربيجان لحل الصراع العسكري أو لتخفيفه حدته مع أرمينيا, خصوصاً بعد خسارة إقليم ارتساخ, لكن السلام مع باكو لن يكون سهلاً بالنسة ليرفان, مع خطاب مع الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف خلال الإجتماع الثلاثي الذي عقد مؤخراً في ميونخ تحت رعاية المستشار الألماني أولاف شولتز لتسريع السلام بين البلدين, أكد فيه إن بلاده مستعدة لحل الخلافات بالوسائل السلمية دون استخدام القوة العسكرية, ولا تطالب بأراضي أرمينية، لكن على يريفان بدورها التخلي عن مطالبة أذربيجان ببعض الأقاليم, والقبول بشروط باكو.
من اللافت أن يشارك رئيس الوزراء نيكول باشينيان في لقاء ميونخ بعد إعلانه لوسائل الإعلام الفرنسية قراره بـ "تجميد" عضوية يريفان في منظمة معاهدة الأمن الجماعي, وقبوله المساعدات العسكرية الفرنسية , خصوصاً وأن فرنسا عرضت نشر وحدات عسكرية في أرمينيا, "من أجل منع الإستيلاء الكامل على أراضي أرمينيا من قبل أذربيجان" – بحسب باشينيان-, ووسط أحاديث إعلامية عن إحتمالية قيام أرمينيا بإغلاق القاعدة العسكرية الروسية الموجودة على أراضيها.
ويطرح السؤال نفسه, هل يمكن لحكومة أرمينيا الإعتماد على فرنسا لحماية أراضيها, وهي المطرودة من أفريقيا لفشلها بحماية الدول الأفريقية, وما قيمة ذلك بعد خسارتها ناغورنو كاراباخ, ووقوعها كفريسة تحت شروط باكو القوية، ومن جهةٍ أخرى, كيف لحكومة باشينيان القبول بالرهان على الغرب وفرنسا والإتحاد الأوروبي وتجاهل إتفاق باكو والاتحاد الأوروبي العام الماضي وعلى تزويده بالغاز حتى عام 2027, وما يشكل ذلك من أهمية للدول الإتحاد التي تعاني صعوبات في تأمينه نتيجة مقاطعتها الغاز الروسي.
لا يمكن إعتبار سلوك باشينيان وقراره بتجميد عضوية بلاده في منظمة الأمن الجماعي أمراً مفاجئاً, فقد سبق له أن عارض إجراء تدريبات منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وشكك بحاجة أرمينيا إلى قواعد عسكرية روسية على أراضيها, وتغيب عن حضور قمة المنظمة التي انعقدت في مينسك، والموقف الأبرز له كان بمصادقة حكومته على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، الذي أصدر مذكرة اعتقال بحق الرئيس بوتين.
يبدو أن حكومة يريفان بدأت بالسير بعيداً عن روسيا وبحثت عن البديل ووجدته في الغرب وبحمايةٍ فرنسا – ماكرون, بدليل الزيارات التي قام بها وزير الدفاع الأرميني في 21/شباط, ورئيس الحكومة نيكول باشينيان في 22/شباط, وسط وعود الرئيس ماكرون بمواصلة دعم أرمينيا وتزويدها بالسلاح , بعد وصفه باشينيان بـ "الشجاع", فيما التقى باشينيان بمجموعة من كبار رجال الأعمال مع قيادة الشركات الفرنسية, وعينه على عدد كبير من المشاريع الإسثمارية, والتعاون الاقتصادي والتعاون في مجالات البناء وتطوير البنية التحتية والزراعة والسياحة والتقنيات العالية والفروع الصناعية.
يدرك باشينيان أن ماكرون يحاول إعتلاء زعامة الإتحاد الأوروبي, من بوابة العداء لروسيا والرئيس بوتين, وتأكيده بالأمس في ختام مؤتمر دولي لدعم أوكرانيا بحضور القادة الأوروبيين، بأن "هزيمة روسيا ضرورية للأمن والإستقرار في أوروبا"، وعدم استبعاده إرسال المزيد من الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا, في الوقت الذي أعلن فيه زيلينسكي عن نيته بزيارة إلى يرفان وكييف في 4/اّذار, هل يفكر باشينيان بإقتباس "نجاحات" زيلينسكي و"حمايته" لأرضه وشعبه , بعدما سار على ذات الطريق؟.
نخشى أن تكون طريق الجحيم الأمريكية التي رسمتها لإختطاف أرمينيا من موقعها وعمقها الجيو - إستراتيجي وتاريخها, ستمر بدايةً عبر عناوين عسكرية - إقصادية فرنسية, وسلام أذربيجاني مشروط بالإستسلام.
أعتقد أنه على باشينيان وحكومته مراجعة خطورة التقارب مع الغرب, والإستفادة من المأساة الأوكرانية, والإكتفاء بالحديث الإعلامي عن "تجميد" العلاقة والعضوية في منظمة الأمن الجماعي, دون تحويله إلى سياقه القانوني بإنسحاب أرمينيا منها, والإستفادة منه في إطار الغزل السلبي, قبل أن يتحول إلى فعلٍ سلبي تجاه روسيا ودول المنظمة, وعدم تحويله إلى غزلٍ إيجابي تجاه الغرب, على وقع الوعود الأمريكية والفرنسية, وتحت وطأة الإستسلام الأرميني أمام الضغوط العسكرية الأذربيجانية.
م. ميشيل كلاغاصي