صديق محترم سألني على الخاص: أليس من الأجدى أستاذ سامح نقد الاستبداد والدكتاتورية بدلا من نقد الفكر؟..وهل مهمة المثقف أن يصمت عن الاستبداد السياسي وأن يتحدث فقط عن استبداد المتدينين؟
قلت: توجد قاعدة في علم الاجتماع السياسي يمكن تلخيصها في عبارة (أن طبيعة العمل السياسي مختلفة عن الفكري) ومن يحاول الجمع بينهما (سيفقد أحدهما حتما)
بمعنى لو حضرتك درست تجربة الإمام "محمد عبده" في الإصلاح نراه قد فطن لتلك القاعدة وإن لم يهتم بعرضها في أعماله الكاملة، لذلك عندما ترك السياسة وقال كلمته الشهيرة "لعن الله ساس ويسوس وسائس ومسوس" كان يصب غضبه على هذا الفارق الجوهري بالأساس، وإن خرجت مقولته بشكل انتقامي..
طبيعة العمل السياسي تتطلب قدرات ومهارات خطابية وشعاراتية والحرص على الثقافة السائدة وعدم الاصطدام مع معتقدات الجمهور، لذلك لن تجد سياسي يُضحي بمكانته ونفوذه لأجل أفكار يراها ضروية لتغيير مجتمعه، والزعيم سعد زغلول كان من هؤلاء، رجل تقدمي وحداثي وأفكاره متطورة ، لكنه كان يتناغم مع المزاج الشعبي العام والدفاع عن ثقافته السائدة، وموقفه ضد الإصلاحي الكبير" الشيخ علي عبدالرازق" مشهور..
بينما طبيعة العمل الفكري مختلفة، فهي تتطلب عقلا نقديا ومعلومات وتدبر موضوعي، ويقوم بالأساس على نقد الثقافة السائدة التي دفعته للتفكير بالتطور، فالعمل الفكري لن يُوجَد في ظل حالة من الرضا بالسائد، لكنه يظهر إذا شعر بضرورة التغيير أو أصابه نوع من السخط على تردي الأوضاع..
طبيعة العمل الفكري تتصادم جذريا مع الثقافة السائدة، لأنها تنتقدها بالأساس وتحاول دفعها للتطور أو التغير لشكل مختلف، وكل إصلاحيين التاريخ فعلوا ذلك أبرزهم (الأنبياء عليهم السلام)
فالنبي قبل أن يكون مرسلا من الله، هو مفكر إصلاحي ناقد بالدرجة الأولى، وغاضب على تردي الأوضاع في مجتمعه كشيوع الظلم والجهل والاستبداد والقهر والفقر..إلخ، ولأنه يمتلك صفات خلقية وعقلية عالية ومهارة اجتماعية مميزة كان اصطفاؤه من السماء، ولذلك ذكر النبي عليه السلام (بالمصطفى) أي (بالمختار) وبالطبع فقد كان اختياره من بين مجموعة من البشر هو كان أبرزهم لحمل الرسالة..
جميع الأنبياء لم يعملوا بالسياسة لطابعها الخاص المختلف عن الفكري، ما عدا الرسول عليه السلام، وظروف عمله بالسياسة كحاكم مسار جدل ونقاش طويل ومفصل من قبل المفكرين ورجال الدين لفهم هذا المسار، وبالطبع فالمتشدد الإسلامي يعتمد على جمع الرسول بين الحاكمية والنبوة على تأصيل قاعدته بضرورة الحكم الديني مثلما فعل ذلك سيد قطب في نظرية "الحاكمية".وهذا نقاش آخر فيه جدل كبير حتى بين الإسلاميين أنفسهم كان أشهر من رد على قطب هو يوسف القرضاوي وراشد الغنوشي..
المختصر المفيد: أن قرار البعض إما العمل السياسي أو الفكري لابد أن يُحترم، فكلا العملين مختلفان من حيث الطابع، وشروطهما متباينة بشدة، أما من يطالب بالجمع بينهما هو نفسه لا يقدر على ذلك، وسوف يظل معترضا ويصب جام غضبه فقط على من يفصل بين الأمرين، لكنه لا يمتلك أدلة مقنعة سوى دغدغة المشاعر والقفز على الفروق الجوهرية بين العملين..
ما بالك وأن هناك حجة لأنصار الفصل تتلخص في (الأولويات)
حيث يتطلب النظر في إصلاح المجتمع بفهم الوسائل، وترتيبها ووضع أولوياتها، وهؤلاء تتلخص أقوى حججهم على الإطلاق في أن الإصلاح الفكري هو الأولوية، لأنه يناقش مادة التغيير الشعبية التي تختار الحاكم بالأساس، وبالتالي فلا معنى للنظر إلى فرع المشكلة ونسيان الجذور أو القفز عليها كما يحلو للمعترضين..