إسقاط نظام الأسد امر قاس و بمثابة خسارة ثقيلة للكرملين ، و أن الاعتماد فقط على سياسة تصدير الأمن و استخدام القوة لصالح الحلفاء و هي مطلوبة و مقدرة في الشرق الأوسط و إفريقيا لكنها غير كافية و حاسمة.
يمكن القول ان إنهيار النظام السوري بمثابة اغلاق الستار على مشروع انقلابات ما سُمي (ربيعاً عربياً) بعد 15 اعوام من بدايته ، لو سقط النظام السوري تباعاً بعد نظام بن علي ، مبارك و القذافي ، لكان بسبب ضعفه. لكنه سقط بعد أن سانده كل من روسيا و إيران ، في مواجهة ارادة الحكومات الغربية للتخلص منه ، مثل هذا السقوط المتأخر لا يمكن إلا أن ينظر إليه على أنه هزيمة روسية و إيرانية على المسرحين الدولي و الإقليمي.
يبدو تركيز فلاديمير بوتين على جبهته في أوكرانيا، بهذا تجاوز القاعدة السياسية العقلانية، واضح إنه كان مستعد للتضحية بكل شيء من أجلها ، بما في ذلك التخلي عن نجاحاته السابقة على الرغم من أن قادة النظام الروسي حاولوا باستمرار تقديم أنفسهم بالواقعيون و يتصرفون بدم بارد ، فقد تم استبدال السياسة الاوسع بعد نظر للكرملين منذ فترة طويلة بالجغرافيا السياسية ، اي في الاتجاه الأوكراني.
فقدت روسيا- بوتين إنجاز عسكري و سياسي الاهم في السنوات الأخيرة في الصراع و المنافسة الدولية الجيوستراتيجية مع الغرب بقيادة واشنطن و في منطقة تمثل مفترق طرق العالم تأثيرا و نفود، رغم ذلك نلاحظ صمتا عم حدث فلا أحد يهتم او يدرس هذا الفشل و سببه في دوائر موسكو السياسية او العسكرية؟!
هل حصل شيئا ما بين موسكو و واشنطن يرتسم على الساحة السورية عبر التركي منفذ الانقلاب مثلا هو ما يفسر هذا الصمت الروسي..؟
بينما المحللون السياسين و العسكريين الروس متهمين بخرايذ تقسيم العالم و تمجد فعالية الأسلحة الروسية و لكن قلقين و حزينين من ضياع مفتاح بيت روسيا في المياه الدافئة (كما وصفت "دمشق" الامبراطورة "كاترينا") بعد ان كان في الجيب.!!.
نذكر الحملات الدعائية و التباهي التي واكبت الحفلات الموسيقية احتفاءا باسترجاع و الحفاظ على مدينة "تدمر الاثرية" و تامين استقرار و حماية الحكومة الصديقة تاريخياً و الحفاظ على المسيحيين في الشرق ، ثم التمكن من وقف مد الثورات الملونة و تدمير الإرهابيين في سوريا كي لا يعودوا الى القوقاز و وسط آسيا (الامن القومي الروسي) ، كم تفاخروا أنهم لم لن يتخلوا عن أصدقاء لهم ، بينما دول ٱخرى يمكنها ان تفعل ذلك و حصل فعلا ....
و أين هذا الفرق بينهما الآن؟
لقد ارتبط التدخل العسكري الروسي في سوريا مع الحدث الأوكراني منذ البداية، حيث تم تقديم الربيع العربي في الراي العام الروسي على أنه استمرار لانقلاب( الثورة البرتقالية) في "كييف" أي بمثابة بروفة ربما لتغيير النظام الروسي، وهناك أمر كان واضحا في لقاءات بوتين و الأسد منذ بداية الحرب في و على سورية كانت تعطي انطباعا وكأنها تجري بلا عاطفة و تبدو باردة مقارنة مع لقاءات بوتين مع العديد من القادة الغربيين الخصوم ، عدا عن زيارات أردوغان المتقلب التي كانت تبدو أكثر دفئا، و كأن بوتين لا يساعد صديقا شخصيا بل كانت تدخله عبارة عن مهمة جيوسياسية خالصة في محاولة للرد على موجة تغيير الانظمة التي يقودها الغرب منعا من أن تلحق سورية بمصير اوكراينا بعد الاطاحة بيانوكوفيتش .
لاشك في سورية ، نجح التدخل الروسي مع انه جاء متأخر عن معظم القوى الخارجية الآخرى في هذه الحرب المتعددة الطبقات ، تدخل رسميا معلنا ضد "داعش" من هنا لم يقابل التدخل الروسي غربياً بعقوبات جديدة على موسكو ، حتى بعد اتهام الأسد باستخدام الأسلحة الكيميائية والطائرات الروسية بقصف حلب العشوائي.
اعتقد و تبين لاحقا إن إرسال قوات روسية إلى سوريا ، كان بوتين ينفذ ثلاث مهام:
الخروج من عزلة الدولية ما بعد ضم "شبه جزيرة القرم' في عام 2014
العودة إلى الشرق الأوسط ، حيث فقدت موسكو نفوذها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ،
و وضع روسيا على خريطة العالم كقوة قادرة على التاثير الدولي وقف تغيير الانظمة بالقوة و دعم حلفاءها في أي مكان في العالم ، كما ان انهيار نظام الأسد يرتبط مباشرة بانحيازه الكامل الى السياسة الروسية بمواقفه المطابقة لموقف موسكو في جميع القضايا .
نعلم ان بشار الأسد بدأ مهمته كرئيس إصلاحي سياسي و اقتصادي ، فتح البلاد أمام رأس المال الغربي و الاستثمارات الدولية ، و هو ما فشلت روسيا في تعويضه لاحقا كبديل لتلك المنظومة الغربية في التنمية الاقتصادية السورية و ضخ الاستثمارات في البنية التحتية و بالتالي تحسن الوضع الإقتصادي و المعيشي للسوريين بعد هدوء الجبهات عمليا.
اي أن روسيا تمكنت من إعادة الأراضي بالقوة العسكرية و السياسية الى سلطة الدولة ، لكنها لم تستطع إعادة الحياة والتنمية إليها، لم يحدث شيء في المناطق التي استعادتها السلطة السورية بمساعدة إيران و روسيا الذي من شأنه أن يجعل السوريين يفرحون مثلا ب بإعادة السيطرة على دمشق وريفها ، اما ترميم المباني الحكومية و العامة الفردية و المعسكرات العسكرية لم يغير الصورة العامة لحياة الملايين من الناس يعيشون تقريبا كارثة إنسانية ، تحت ضغط قوات الأمن الفاسدة ، جشع التجار و عقوبات قيصر التي جمدت حتى الهواء في المناخ السوري ، عملياً فشلت الدولة السورية في الخروج من الهاوية الاقتصادية التي سقطت فيها
مع اندلاع الحرب و انخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في السنوات الأولى من الحرب من حوالي 3000 دولار إلى أقل من 1000دولار و تقلب عند هذا المستوى ، و بعد كوفيد انخفض إلى 500 دولار تماما إنهيار النمو الاقتصادي أكثر من 50 ٪ في السنوات الأولى من الحرب الى إنهيار و فشل كارثي آخر مع بداية عام 2020م.
بينما الحياة في محافظة إدلب التي تسيطر عليها الجماعات الإسلامية المسلحة تحت رعاية تركيا أكثر جاذبية من المناطق الخاضعة لحكم الحكومة الرسمية على الأقل كانت إدلب تعاني من الانارة ،الوقود ، الماء و مشاكل غذائية أقل بكثير بالطبع
ولم يتم تدمير إدلب مثل حلب ثم حاولت تركيا أن تظهر أن الحياة تحت احتلالها تمضي بشكل جيد على كافة المستويات و نجحت تقريباً ،على سبيل المثال ،أطلقت برنامج لبناء مساكن جماعية بأموال النظام القطري و السوريين ، بينما ساد الركود و الفساد في حلب المحافظة المجاورة ، والدليل ان حجم التبادل التجاري الروسي مع الدولة السورية لم يتجاوز (500-700 مليون دولار في السنة).
اماهزيمة النظام و سقوطه جاءت منطقية.لم تسطع موسكو تقديم دعمها العسكري السابق للأسد كونها منغمسة تماما في الحرب في أوكرانيا، كما جرى استزاف قوة حزب الله بسبب الحرب مع إسرائيل
بينما استخدمت الفصائل المعادية للنظام في محافظة إدلب عامل الوقت من خلال (اتفاقيات وقف التصعيد التي منعت الجيش السوري من دخول إدلب عدة مرات بضغط روسي !! ) لإعادة التسلح، التدريب ،على تكنولوجيا الطائرات بدون طيار مع المساندة و التخطيط و تقديم المعلومات الاستخبارتية من تركيا و الناتو ، لكن من الواضح في كل الحالات ان الجيش السوري لم يخسر المعركة ، لكنه ربما رفض خوضها ام لم يتركوه يقاتل ، أي كانت الأسباب ،الهزيمة ليست عسكرية بل سياسية، لهذا على الأرجح لم تكن إيران في عجلة من أمرها لإرسال قوات برية لمساعدة دمشق ، ببساطة لم يكن لديها الوقت و لم تجد التصميم اللازم للمساعدة منها ربما ، يمكنك القتال مع حليف لكن لا يمكنك القتال بدلا عنه .
واقع سوريا اليوم و ما وصلت اليه يؤكد معضلة العلاقات بين روسيا و دول الجنوب ، فالتدخل الروسي بشكل حصري يقوم على مبدعا إستخدام القوة والدعم العسكريين و الأمن و هذا لايكفي واصبح محدود التأثير و نتيجة تقول أن روسيا لا يمكنها خوض حرب بشكل فعال على جبهتين معا.
النتيجة هو فشل بل خسارة صعبة لكل من روسيا و إيران ليس فقط في العمل كمحركين للنمو الاقتصادي لحليفتهما دمشق ،و لكن أيضا في جذب الآخرين بما من الاصدقاء والحلفاء من المستثمرين كدول الخليج الهند أو الصين الى سوريا بموجب ضمانات أمنية روسية و إيرانية.
و انتقدت روسيا و إيران و العديد من الحكومات الأخرى في جنوب الكرة الأرضية التدخلات العسكرية الأمريكية متهمين إياها بعدم معرفة التفاصيل الدقيقة المحلية ومجتمعات تلك الدول و بالتالي غير قادرين على إنشاء أنظمة مستقرة أو هياكل أمنية فعالة ، لكن يبدو أنه كذلك إيران أو روسيا بدورهما التقليدي في الشرق الأوسط كما ادعوا ، في التجربة السورية اتضح أنهم لا يعلمان شيئا أيضا.
فشل الحليف الروسي و خروجه من المعادلة مبدئيا
و سقوط دمشق تبقى ماثلة ويعتريها الشك بعيون حكام آسيا الوسطى حيث تقدم روسيا نفسها كمدافع و ضامن لا غنى عنه للاستقرار السياسي في تلك المنطقة ، و على كل ما سبق كما قلت سابقا..
دمشق الشام مؤشر اسهم للدول التي تريد الصعود بقوة على مسرح العالم السياسي و ما يحمله هذا الموشر من أثمان يجب دفعها صعودا و هبوطا.
موسكو/ علي وطفي



