قراءة استراتيجية في الفكر الروسي, كيف أصبحت سوريا محور استراتيجية روسيا في الشرق الأوسط والعالم
دراسات و أبحاث
قراءة استراتيجية في الفكر الروسي, كيف أصبحت سوريا محور استراتيجية روسيا في الشرق الأوسط والعالم
نيكولاي باخاموف
17 كانون الأول 2019 , 01:22 ص

 

مقدمة: نظرة الساسة الغربيين لموقف روسيا من سوريا تتمحور حول سؤالين, هل روسيا اتت لدعم الرئيس بشار لأسد لإنقاذه؟ أم أتت اليها لمحاربة داعش؟ بينما يرى الكاتب الروسي المقيم بالولايات المتحدة  "نيكولاي باخاموف" لرأي ثالث, يرى الكاتب أن الموقف الروسي يتعلق بالنظرة الإستراتيحية للحضور الروسي الإستراتيجي في العالم, فروسيا أكدت استكمال استعداداتها لتكون لاعباً دولياً ليس على المستوى السياسي بل على المستوى العسكري حيث يتطلب الأمر.

إضاءات 

في مقال نيكولاي باخاموف ورد:

 تتراوح النظرة لدى الغرب, سواء أكان المرء يعتقد أن روسيا تٌنقذ حكومة الرئيس السوري، أو تحارب داعش، فهذان الأمران الذي يميل إليهما  التصور الغربي في نظرتهم للواقع السوري، ومن الصعب التفكير أو الحديث عن ما عداهما.

فقد ركز التحليل الدولي على العمل العسكري الروسي في سوريا في الغالب على الأهداف الرئيسية له, حيث ناقش الصحفيون والسياسيون والخبراء والنقاد, ما إذا كانت روسيا تحاول إنقاذ حكومة الأسد أو إذا ما كانت تقاتل داعش وغيرها من الجماعات الإرهابية في المنطقة.

غالباً ما تكون هذه النقاشات المهمة من الناحية السياسية، ولكنها تميل إلى أن تكون مثيرةً للخلافات تماماً، ولا تسهم كثيراً في فهم الخلفية أو الرؤية الروسية الأوسع أو خلقية العملية الروسية في سوريا. 

ويبدو من المكن أن يكون هناك نهجٌ تحليليٌ واعد بشكلٍ أكبر من غيره من تحليلاتٍ سابقة, حيث يمكن للخبراء قضاء سنواتٍ في دراسة مذاهب السياسة الخارجية الروسية وخطابات صانعي القرار فيها ومع ذلك سيظلون غير قادرين على فهم فك شفرة التصرف الروسي في البلد المعني, سواءً كانت سوريا أو غيرها  في الظروفٍ المختلفة.

في هذا السياق قد يتطلب الأمر مجلدات  كاملة لفهم السياسات الروسية ، حيث تتوفر كميةً كبيرة من الدوافع للبحث بها, لأوئك الذين يحاولون فهم السياسة الخارجية الروسية طبعاً.

فبادئ ذي بدء ، تعتبر سوريا حليفةً لروسيا في الشرق الأوسط، فقد طلب الرئيس السوري بشار الأسد المساعدة العسكرية من موسكو، حيث لم تتوانى موسكو من الوقوف بجانب حليفتها التاريخية  سوريا, خاصة  في الظروف العالمية الصعبة والمعقدة.

 كثيراً ما كرر النقاد والسياسيون الأمريكيون، وخاصةً الجمهوريين منهم، خلال الشهر الماضي أن الحملة العسكرية الروسية تمثل عودةً لموسكو إلى الشرق الأوسط بقوة .

ووفقاً لهذه التصريحات، كانت موسكو غائبةً عن المنطقة منذ عصر الرئيس المصري السابق أنور السادات، الذي حول ولاء مصر من الاتحاد السوفيتي إلى الولايات المتحدة أثناء حكمه للبلاد.

وعلاوة على ذلك، يجب أن ننظر إلى الوضع الحالي لعلاقات روسيا في الشرق الأوسط, فروسيا لن تعود إلى الشرق الأوسط كما كانت في السابق، فقد كانت سوريا حليفةً سوفييتية خلال الحرب الباردة، لذا كان من المنطقي للغاية أن يطلب بشار الأسد مساعدة روسيا دون غيرها حينما دخلت سوريا أتون المعركة مع داعش مما سبب لها العديد من الأزمات القاتلة .

أولاً: يعتقد العديد من المراقبين بأن العملية العسكرية الروسية في سوريا هي تحدٍ جريءٍ للولايات المتحدة في المنطقة، وفي هذا الصدد ، فإن قرار روسيا بالوقوف إلى جانب حليفتها مهمٌ بشكلٍ خاص حيث تخلت إدارة أوباما عن مبارك، وهو حليفٌ أمريكيٌ قديم، في حين أن الكرملين، وفي ظل الظروف الأكثر تعقيداً في الشرق الأوسط ، لم يتخلَ عن الأسد ولو للحظة، وهذا الموقف من المفروض أن يعطي قادة المنطقة أجمع مساحة للتفكير فيه ملياً , فيما يتعلق بالتحالفات والعلاقات الاستراتيجية والمقارنة بين كلٍ من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية في هذا الصدد. 

ثانياً: إن التورط العسكري الروسي في سوريا هو اختبارٌ خطير للغاية لعلاقات و قوة تأثير روسيا في المنطقة, حيث أن شؤون وأهمية الشرق الأوسط في حالةٍ تغير مستمر، وتنمو أهميته أكثر وأكثر كل عام .

ثالثاً: لما سبق, أنه من الصعب للغاية في هذه الحالة التظاهر بوجود تحالفاتٍ مستدامة أو أصدقاءٍ تاريخيين يمكن أن تعتمد عليهم قوةٌ خارجية في الشرق الأوسط لتشكيل التحالفات اللازمة لأهداف متنوعة و لمجابهة تغير الأزمات المستمر, لذلك ، فإن أحد أهم الأشياء للقوى الخارجية هو اتساع علاقاتها في المنطقة، وإنه لمن الصعب ألا نلاحظ أنه على الرغم من مختلف الانتقادات والمخاوف من العواصم الإقليمية فيما يتعلق بالتدخل العسكري الروسي في سوريا، إلا أن موسكو تتعامل وتتعاون مع تلك الدول جميعها دون استثناء, فخلال الشهر الماضي، فتحت روسيا قنوات اتصالٍ مفتوحةٍ مع العديد من الدول على مصراعيها مع مصر, الأردن, تركيا و الكويت و المملكة العربية السعودية وإسرائيل . 

كما أن موقف روسيا من سوريا قريبٌ جداً من موقف إيران، وقد أبدى المسؤولون العراقيون اهتماماً قوياً بالتعاون مع روسيا في القتال ضد داعش أيضاً . ولا يمكن للمرء أن يكون مخطئاً في الإشارة إلى أن بعض هذه المحادثات صعبة التصديق أو التنفيذ، و لكنها حقيقةٌ للغاية ومطبقة على أرض الواقع . وفي الحقيقة ، إن  استمرارها يعزز بشكلٍ كبيرٍ موقف روسيا الاستراتيجي في الشرق الأوسط أكثر مما نتخيله .

وهنا يمكننا مرةً أخرى مقارنة المواقف الروسية والأمريكية، فعلى سبيل المثال، من الصعب جداً على واشنطن أن تتعامل مع العديد من القضايا في المنطقة دون التحدث إلى طهران، و ذلك بسبب السياسة الداخلية للولايات المتحدة التي تعتبر إيران عدواً و ليست حليفاً استراتيجياً.

كما أن التدخل العسكري في سوريا يسمح لنا بتقديم عدة استنتاجاٍت حول السياسة الخارجية الروسية خارج الشرق الأوسط . فالأهم منها أن موسكو ليست خائفةً من اتخاذ قراراتٍ جريئة و مصيرية . وقد يجادل المرء بأن قرار التدخل العسكري الروسي في سوريا كان محفوفاً بالمخاطر، لكن في عصرنا الحالي المتمثل في التدقيق العالمي العام، والإفراط في المعلومات والتسويف السياسي العالمي، في بيئةٍ سريعة التغير ومحيرة كالشرق الأوسط، فإن اتخذ الكرملين خياراً جريئاً كهذا يعتبر نقطة قوةٍ دبلوماسية واستراتيجية تخيف الولايات المتحدة الأمريكية . 

فلا تزال العديد من الشكوك تدور حول ما تحاول موسكو تحقيقه وكيف سينتهي تنفيذ قرارها بالتدخل في سوريا، لكن الشجاعة الاستراتيجية للسياسة الخارجية الروسية لا شك فيها في ظل إثباتها لذاتها.

ومن خلال إظهار هذا النوع من الجرأة ، تجبر موسكو، أيا كانت أهدافها، اللاعبين الآخرين في الشرق الأوسط على الرد سواءٌ كانوا مستعدين أم لا, حتى أن بعض الخبراء الأمريكيين لاحظوا أن قرار أوباما بإرسال خمسين وحدةٍ من القوات الخاصة الأمريكية إلى سوريا يمكن اعتباره رداً على تصرفات روسيا، على الرغم من أنه لم يكن بنفس جرأة التصرفات الروسية .

كما تعتمد شجاعة موسكو على قدراتها العسكرية واستعدادها لاستخدامها بكل جرأة و دون حسبان لأي قوة عسكرية على الكوكب فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، شكك العديد من المتشككين المحليين والدوليين في أن مستوى الجيش الروسي لن يرقى للعب دورٍ أكبر في الشؤون العالمية، لكنهم كانوا مخطئين حقاً في تقدير قدرات الجيش الروسي الأحمر ولا يمكن القول بأن روسيا قد استخدمت التهديدات العسكرية كأداةٍ للسياسة الخارجية الخاصة بها، ولكن من وقتٍ لآخر، يمكن للمرء أن يسمع النقاد يسألون : لماذا ينبغي اعتبار روسيا قوةً رئيسية؟

فاليوم ، قد تلقى هؤلاء المتشككين الجواب على أسئلتهم و شكوكهم حول قدرات الجيش روسيي والسبب وراء وجوب اعتبار روسيا قوةً عالميةً رئيسية .

فإذا كان أسطول بحر قزوين، الذي يعتبره البعض "القوات الروسية البحرية الأضعف "، قادراً على استخدام صواريخ كروز لضرب أهدافٍ على بعد آلاف الأميال، فماذا يمكن لروسيا أن تفعل حينما تلجأ لأقوى أساطيلها وعتادها العسكري، خاصةً عندما تكون مستعدةً لاستخدام قدراتها العسكرية الفائقة دون اعتبارٍ لأحد؟ . 

و بالطبع، يوجد عددٌ كاف من النقاد الذين يتوقعون أن صواريخ كروز الروسية لن تصل إلى أهدافها، ولكن لا يوجد جيشٌ أو تقنيةٌ مثالية، وحتى الآن لا يمكن لأحد أن يثبت عدد الصواريخ التي فشلت في اختباراتها أو عدد الصواريخ التي ستصيب أهدافها بدقة .

و من المهم أيضاً التفكير في أن روسيا استخدمت هذه الصواريخ، بشكلٍ روتيني تقريباً ، ليس أثناء معركة وجودية أو قتال من أجل المصالح الوطنية الحيوية ، و لكن في حملة اختباراتٍ بعيدة المدى للتسليح الذاتي من أجل الحماية المستقبلية بعيدة المدى . و مرةً أخرى نثبت بأن روسيا تقوم بخطواتٍ و استراتيجياتٍ خطيرةً للغاية على الولايات المتحدة الأمريكية و حلفاؤها .

و بشكلٍ عام ، يعمل الجيش الروسي، ومن نواحٍ كثيرة، على أرضٍ غير مألوفة بالنسبة له . فحتى عملية عام 2008 في جورجيا كانت قريبةً من حدود روسيا وقاتلت ضد عدوٍ معروفٍ مسبقاً بالنسبة لها .ولكن لم يكن هذا هو الحال مع سوريا، حيث تشن روسيا نوعاً من الحملة التي شوهدت مؤخراً تم تنفيذها فقط من قبل الولايات المتحدة أو تحت القيادة الأمريكية ، وذلك بالاعتماد على  الضربات الجوية من قاعدةٍ أجنبية، وصواريخ كروز، و أنواع مختلفة من الطائرات والاستطلاع الإلكتروني، دون تدخلٍ فعليٍ لوحداتٍ تابعة للقوات البرية ، لقداستطاعت روسيا من استخدام  الطائرات المسيرة ، وكما التنسيق الوثيق بين القوات البحرية والقوات الجوية بالإضافة للتعاون مع الجيش السوري ، وهذه كلها علاماتٌ على عمليةٍ نموذجية للحرب الحديثة.

 قريباً ، سوف يكون لدى العالم المزيد من الأدلة للحكم على استعداد روسيا لهذا النوع من القتال ضد أعدائها أياً كانوا .

إن المسألة الحاسمة التالية التي يجب متابعتها، أثناء تحليل أهمية التدخل العسكري الروسي في سوريا للسياسة الخارجية الروسية، هي قدرة موسكو على حساب التجربة السلبية الماضية، سواءٌ أكانت تجربةً خاصة أو تجارب الآخرين . 

فأول شيءٍ يجب ملاحظته هنا هو بذل روسيا جهوداً أكثر ثباتاً لجعل العملية في سوريا شفافةً و دون أي تعتيمٍ أو تهويلٍ إعلامي . حيث تتواصل وزارة الدفاع و وزارة الخارجية و الكرملين مع نظرائهم و مع وسائل الإعلام الدولية ، أكثر مما يتوقع أي شخصٍ مطلع من المسؤولين الروس .

و بالنظر إلى العلاقات الباردة بين الكرملين والبيت الأبيض، بدا اجتماع سبتمبر في نيويورك بين بوتين وأوباما كمحاولةٍ من الرئيس الروسي لشرح موقف بلاده بشكل شخصي, دون محاولته الحصول على الدعم الأمريكي .

وقد تكون هناك أسبابٌ روسية مماثلةٌ من وراء المشاورات المستمرة الحالية مع قوى الشرق الأوسط،  إذ أن دعوات وزارة الدفاع الروسية إلى الملحقين العسكريين في موسكو مع الحلف الغربي، و خاصةً الأمريكية ، لإنشاء قنوات اتصالٍ لتجنب الحوادث و النيران الصديقة أثناء العمليات العسكرية . 

كما نستطيع أن نرى أيضاً أن وزارة الدفاع الروسية فتحت مركزاً للمعلومات لتوفير المعلومات الرسمية، بما في ذلك مقاطع الفيديو الخاصة بالاعتصامات و لعمليات، في الوقت المناسب.

حيث يمكن للمرء أن يجادل بفعالية هذا الجهد في مجال العلاقات العامة، لكنه يمثل خطوةً كبيرةً إلى الأمام مقارنةً بتصرفات روسيا خلال عملية جورجيا عام 2008 ، عندما تفاعلت موسكو ببطءٍ مع تحركات جورجيا لكسب التعاطف الدولي بينما بذلت روسياهذه المرة، جهوداً عظيمة للوصول إلى المعارضة المناهضة للأسد.

لكن كان على روسيا القيام بدراسةٍ أكثر قبل العملية السورية والتي شملت الدروس المستفادة من الحملات العسكرية الأجنبية لبلدانها وغيرها من الأخطاء, حيث يشبه الكثير من المراقبين الآن التدخل الروسي في سوريا بالغزو السوفييتي في أفغانستان . 

ومن الواضح أنه ليست جميع المقارنات صحيحة حيث أن التضاريس والثقافة والسياسة في سوريا وأفغانستان الحديثة أثناء الغزو السوفيتي لها قبل حوالي 40 عاماً مختلفةٌ تماماً .

والأهم من ذلك ، بالنسبة للاتحاد السوفيتي، أصبحت الحرب الأفغانية حرباً بالوكالة بشكلٍ كاملقامت بها الولايات المتحدة وباكستان ودول الخليج ، والتي قدمت دعماً حاسماً للمعارضة الأفغانية . 

حيث تكافح الولايات المتحدة اليوم لفهم من هم "المتمردون النافذون"  الذين هم جزءٌ من "المعارضة الديمقراطية" في سوريا، ناهيك عما إذا كانت ستزود "الأخيار" بالأسلحة الأكثر تطوراً, على الرغم من أن سوريا ليست أفغانستان ، إلا أن روسيا لا تزال لديها ما يكفي للدراسة بعد التجربة السلبية السوفيتية هناك، أو حتى الانتقال الأمريكي المحكوم في فيتنام، من القصف الجوي إلى الحملة البرية .

ففي هذه المرحلة ، من السابق لأوانه القول ما إذا كانت روسيا قد قامت بما يكفي من البحث و الدراسة أم لا  ولكن كما أوضحنا أعلاه، فإن بعض الحقائق المهمة لسلوك روسيا على الساحة الدولية واضحةٌ بالفعل خلال حملتها العسكرية في سوريا .

كاتب المقال / نيكولاي باخاموف ، محلل و مستشار سياسي مقيم في مدينة نيويورك . و هو خبيرٌ في الشؤون الدولية الروسية .

المصدر: وكالات+إضاءات