ليست المرة الأولى التي نتحدث فيها عن التطبيع مع العدو الصهيوني, وبالطبع لن تكون الأخيرة مادامت هناك أصوات شعبية لازالت تبحث لنفسها عن دور داخل المشهد - أي مشهد – ليسلط عليها الضوء – أي ضوء – وبالطبع فعل التطبيع مع العدو الصهيوني فعلا موصوما اجتماعيا داخل المجتمع المصري, فعلى الرغم من مرور 43 عام على اتفاقية السلام المزعومة بين مصر الرسمية والعدو الصهيوني فإن مصر الشعبية لم تعترف بهذا السلام المزعوم ولازالت تعتبر العدو الصهيوني هو عدوها الأول, أما دعاة التطبيع مع العدو الصهيوني ممن يطلقون على أنفسهم نخبة فهم يحاولون الترويج لأفكارهم الشاذة داخل بيئة شعبية عصية على الانحراف.
ويحاول أنصار التطبيع مع العدو الصهيوني الخلط بين الاتفاقيات المزعومة التي وقعها بعض المسؤولين السياسيين في لحظة تاريخية ما, وبين التطبيع في العلاقات مع العدو, وهناك من يتطرف في تصوره ويعتبر معارضي عملية التطبيع خارجين عن الثوابت الوطنية, بل طالب الأكثر تطرفا منهم السلطة السياسية بضرورة محاكمة معارضي التطبيع, باعتبارهم مرتكبي جرائم وخارجين على القانون, في تصور خاطئ منهم بأن الاتفاقيات المبرمة مع العدو قد أصبحت ملزمة للشعب بحكم التصديق عليها من قبل المجلس النيابي, والذين يخلطون الأوراق لا يستطيعون التفرقة بين الاتفاقيات السياسية التي يعقدها المسؤولين السياسيين وبين عملية تطبيع العلاقات التي هى بالأساس ذات طابع شعبي بعيدة كل البعد عن الاتفاقيات السياسية وهذه العلاقات الانسانية التطبيعية لا يمكن لمخلوق أن يلزم الشعوب في علاقاتها وممارساتها اليومية بتطبيقها.
فملابسات توقيع الاتفاقيات السياسية تؤكد دائما أنها وجهات نظر المسؤولين السياسيين الذين يوقعونها والتي يصرون عليها بغض النظر عن موقف شعوبهم منها, وعلى الرغم من أن الدساتير قد تنص على ضرورة الاستفتاء على مثل هذه الاتفاقيات أو موافقة المجلس النيابي عليها باعتباره ممثلا ووكيلا عن الشعب فإن إرادة من في السلطة غالبا ما تفرض في هذه الحالة, لكن تظل الاتفاقية ملزمة فقط لمؤسسات الدولة السياسية, أما عملية التطبيع والتي تشكل أحد بنود اتفاقيات السلام المزعومة مع العدو فترتبط بقرار الشعب نفسه, لذلك فهي ليست ملزمة للشعوب, فالعقل الجمعي الشعبي المصري والعربي قد استقر على أن العدو الصهيوني هو العدو الأول لأمتنا العربية ولا يمكن أن نقبل التطبيع معه رغم عقد اتفاقيات رسمية من قبل السلطة السياسية.
وتعد اتفاقية كامب ديفيد التي وقعها الرئيس السادات عام 1979 مع العدو الصهيوني خير شاهد وخير دليل, ففي أعقاب نصر أكتوبر 1973 ويمكن قبله بدأ الرئيس السادات في التفكير والتشاور والتفاوض مع الأمريكان والصهاينة للترتيب لإنهاء حالة العداء مع العدو الصهيوني على المستوى الرسمي, وجاءت أولى الخطوات العملية بالإعلان المذهل للرئيس السادات أمام البرلمان المصري في عام 1977 بعزمه على الذهاب إلى القدس والتحدث أمام الكنيست, وبعد خطابه بأيام قليلة تلقى الدعوة من حكومة العدو الصهيوني مرحبة بحرارة بالزيارة التي تمت في 9 نوفمبر 1977 وفي أعقابها بدأت محادثات السلام المزعومة التي انتهت بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد بين الرئيس السادات ورئيس وزراء العدو الصهيوني مناحيم بيجن في 17 سبتمبر 1978 بعد مفاوضات سرية استمرت 12 يوما برعاية الرئيس الأمريكي جيمي كارتر, وفي 26 مارس 1979 تم التوقيع على معاهدة السلام المصرية الاسرائيلية في واشنطن عاصمة الولايات المتحدة الأمريكية.
وأثارت اتفاقية السلام المزعومة ردود فعل معارضة في مصر ومعظم الدول العربية سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي, ففي مصر استقال وزير الخارجية محمد إبراهيم كامل لمعارضته الاتفاقية وأطلق عليها " مذبحة التنازلات " وكتب في كتابه " السلام الضائع في اتفاقيات كامب ديفيد " الذي نشر في مطلع الثمانينيات أن " ما قبل به السادات بعيد جداً عن السلام العادل ", وعلى الصعيد العربي عقد مؤتمر قمة رفضت فيها الاتفاقية واتخذت جامعة الدول العربية قراراً بنقل مقرها من القاهرة إلى تونس احتجاجاً على الاتفاقية المزعومة, وعلى المستوى الشعبي خرجت التظاهرات الرافضة في كل العواصم العربية بما فيها العاصمة المصرية, ورغم حالة الرفض الرسمي والشعبي استمر الرئيس السادات في طريق استكمال إجراءات الاتفاقية بما يتوافق مع الدستور المصري, حيث عرض الاتفاقية على البرلمان بعد 15 يوماً من توقيعها, وتصدى للمعاهدة 16 نائباً فقط وعلى الرغم من موافقة الأغلبية إلا أن صوت المعارضة كان مدوياً ومدعوماً شعبياً فاضطر في اليوم التالي لجلسة البرلمان 11 أبريل 1979 إعلان حل مجلس الشعب, وطرح المعاهدة للاستفتاء الشعبي طبقاً لنصوص الدستور, كما طرح حل المجلس للاستفتاء أيضاً, وجاءت النتيجة موافقة بالإجماع, وتمت دعوة الناخبين لانتخابات جديدة في يونيو 1979.
وعلى الرغم من تمرير الرئيس السادات للاتفاقية السياسية على المستوى الرسمي إلا أنه لم يتمكن من تمرير بند التطبيع لأنه يتعلق بالعقل والضمير الشعبي, لذلك لم تحاول السلطة السياسية في مصر على مدار ما يزيد عن الأربعة عقود كاملة فرض بند التطبيع على الشعب المصري, لإدراكها أن التطبيع ليس قراراً سياسياً كالاتفاقية المزعومة فالاتفاق السياسي لا يمكن أن يغير كراهية الشعب للعدو الصهيوني الملوثة أياديه بدماء شهداء الوطن, والمغتصب للأرض العربية والتي تقر الاتفاقيات المزعومة باستمراره في احتلالها, فالشعب يؤمن بأن معركته مع العدو معركة وجود وليس حدود كما يفهمها القادة السياسيين الذين يوقعون الاتفاقيات.
وخلال الأسبوع قبل الماضي تمت دعوتي للمشاركة في ندوة بواحدة من الجامعات المصرية العريقة وكان موضوعها عن مفهوم السلام في الفكر الفلسفي والاجتماعي بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة, وكانت المفاجأة أن تواجد معي على المنصة أحد أنصار التطبيع مع العدو الصهيوني, وحاولت الانسحاب قبل بدء اللقاء وحذرت منظمي الندوة من تطرق المدعو للسلام المزعوم مع العدو الصهيوني لكن الرجل الموتور الذي فشل في الحصول على درجة الأستاذية في تخصصه, والذي كان يدعو دائما لأفكار شاذة بين طلابه, وكان يجاهر بإلحاده ويفخر به, وعندما ذهب معارا للمملكة العربية السعودية كان يصلي بزملائه إماما لكي يستمر في وظيفته وكان يتباهى بأنه ضحك عليهم, وأخيرا ظهر على مواقع التواصل الاجتماعي ليتفاخر بالتعاون مع مراكز أبحاث صهيونية, أصر أن يكون محور حديثه عن السلام المزعوم مع العدو الصهيوني وحتمية التطبيع معه ووصف الشعب الرافض للتطبيع بالجهل, ووصف المقاومين للتطبيع من المثقفين المصريين بأنهم عملاء للأنظمة السياسية المقاومة للتطبيع مع العدو الصهيوني, لذلك كان لابد من الرد عليه وبالفعل تم إخراسه, وعندما فشل في الرد ذهب لصفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك ليكيل لنا الشتائم والسباب هو وعدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من أنصار الخيانة والعمالة للعدو الصهيوني, وبالطبع لن تنجح مثل هذه الدعوات داخل أروقة الجامعات المصرية لأن جينات الشعب المصري عصية على التطبيع.
وهنا نعود لأنصار التطبيع محدودي العدد والقدرات العقلية داخل المجتمع المصري والعربي ونقول لهم كفى تزييفاً للوعي وخلطاً للأوراق فالاتفاقيات المزعومة ملزمة لمؤسسات الدولة السياسية, أما التطبيع فهو قرار شعبي بامتياز, وأي مسؤول سياسي حتى ولو كان رئيس الدولة قد يلتزم بالاتفاقيات الموقعة مع العدو مادام في موقعه السياسي, لكن حين يتحدث بوصفه مواطناً عادياً فسوف يرفض أي لقاء ولن يقبل بالتقاط صورة واحدة مع أحد أبناء العدو الصهيوني, اللهم بلغت اللهم فاشهد.
بقلم/ د. محمد سيد أحمد